الكرسي الأنطاكي المقدس .. تاريخ من نور
الأب باسيليوس محفوض
( منقول : مجلة الصليب المحيي - النبعة العدد23 حزيران 2014)
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
في التاسع والعشرون من شهر حزيران من كل عام يحتفل أبناء الكرسي الأنطاكي المقدس بتأسيس كنيستهم الرسولية ، (بطريركية انطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس ) وأيضا يصادف هذا النهار عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس مؤسسي الكرسي الأنطاكي. كانت بلادنا ( بلاد الشام ) مهد المسيحية وقد حافظت مدة طويلة على أهمية مقامها الديني وامتازت عن غيرها بأنها كانت مركز إشعاع ديني وثقافي ومنبع الطقوس ، ومن هذه المراكز أو المدن المشعة كانت أنطاكيا ، دمشق، صور، بيروت وغيرها من المدن الساحلية .
أنطاكيا:
كانت انطاكيا المقر الثاني للمسيحية بعد أورشليم لذا كان من الطبيعي ان تتجه أنظار الرسل الذين يحملون معهم شعاع البشارة من أورشليم إلى هذه المدينة فيهتدون إليها جماعات وأفراداً يشجعهم الأمل والرجاء على إيصال البشارة المسيحية إلى أهل المدينة التي عرفت بثقافة أهلها وعلمهم وانفتاحهم وبحثهم عن الحقيقية. إن أنطاكيا من المدن القليلة التي شرعت أبوابها ومجالسها وعقول علمائها وأذهان فلاسفتها ومعلمي مدارسها لأسباب الفكر والعلم والبرهان بحثا عن الحقيقة والخير والوجدانية والأزلية. اكتسبت أنطاكيا صفات مميزة وارتبط اسمها بأحداث غيرت تاريخ الإنسانية وصححت مسيرة البشرية. ومن هذه الأحداث ان أنطاكيا استقبلت تلاميذ المسيح بعد ان اضطهدوا وظلموا وخاصة بعد استشهاد استفانوس. وعن الذين انتقلوا من أورشليم إلى أنطاكيا كان عدد من أهل قبرص والقيروان فبشروا بالمسيحية سكان انطاكيا ( أعمال الرسل 11: 19 – 20 ) فآمن عدد كبير ودخلوا في المسيحية .
لما انتشر هذا الخبر وازداد السكان المسيحيون الجدد ،أرسل بطرس برنابا إلى أنطاكيا لتعزيز الكنيسة الأولى في أنطاكيا. كما جاء الى أنطاكيا شاوول ( بولس الرسول ) الذي كان موجودا مع برنابا، بعد الجولة الأولى حيث جاء من أورشليم مسيحيون من أصل يهودي . وأقام بطرس الرسول في أنطاكيا عاملا على ترسيخ المسيحية وتوطيدها وأسهم في تكثيف الصلات بين المسيحيين في أنطاكيا وتقويتها . وتعتبر كنيسة انطاكيا الرسول بطرس أسقفها الأول، وقد اتخذها الرسول بولس قاعدة أسفاره التبشيرية: منها ينطلق واليها يعود. ومنها أطلق أو دعي المؤمنون لديانة الجديدة " مسيحيين " ودعوا بهذا الاسم حتى اليوم . ومن أنطاكيا انتشرت المسيحية إلى مدن أخرى قريبة وبعيدة .
هكذا انتظمت حياة الجماعة الأولى الى قدر مقبول من أنطاكيا في القرنين الأول والثاني من مختلف النواحي المدنية والاجتماعية والحياتية. الا ان اللافت هو المنحى الثقافي البشري الكتابي الذي ترجم بنشوء مدرسة لاهوتية أنطاكية مشهورة.من هنا بدأت حركة التدوين تنشط وانصرف الإنجيليون كاتبو السيرة الإلهية الى كتابة أناجيلهم . وإلى جانب السيرة الإنجيلية كتبت في أنطاكيا سير الرسل مثلما فعل بولس (ويعقوب وأحيانا بطرس) الذي كان يملي ويروي بدل أن يكتب. فأصبحت أنطاكيا مدينة تشع بالعلم والمعرفة والإيمان بحيث انطبعت هذه الصفات في الأنطاكيين. قال صاحب الغبطة اغناطيوس الرابع (هزيم): "... ان الكرسي الأنطاكي قد اتصف دائما بشجاعة، بالمبادلات، بالمواجهة وبشخصيته المتميزة . لم تطبعه مسيحية ما ، من أية ناحية ، أكثر مما طبعها هو بالذات... "
( اغناطيوس الرابع – مواقف وأقوال) .
دمشق:
حظيت دمشق بنعمة بالدعوة المسيحية بعد أورشليم حتى ليقال إنها سبقت أنطاكيا والدليل هو ارتداد بولس الرسول الذي وقع في السنة الثالثة بعد صعود الرب،وفي سنة استشهاد القديس استفانوس، فرفض بولس استلام الرسائل من رؤساء كهنة اليهود ليلقي القبض على المسيحيين في دمشق كما ورد في سفر( أعمال الرسل 9: 1 – 2 ) لعلمه بوجود مسيحيين اعتمدوا في أورشليم وقت حلول الروح القدس على التلاميذ فغادروا الى دمشق ( العربية ) يبشرون بالمسيح. في دمشق أيضا لقي بولس حنانيا الذي عمده ( أعمال الرسل 9: 18 ) والتلاميذ الذين مكث معهم ، قام بولس في دمشق اياماً كثيرة ( أعمال الرسل 9: 23 ) مبشرا بالمسيح بين يهود المدينة ، فنقموا عليه ولولا الأخوة الذين خلصوه من أيديهم لكانوا قتلوه ( أعمال الرسل 9: 25 ) 0 ثم جاء ثانية إلى دمشق مبشرا كما يخبرنا هو في رسالته إلى أهل غلاطية ( 1: 17 ). من الآثار المتبقية من زمن المسيحية الأولى في دمشق معبد القديس حنانيا وبيت يهوذا الطرسوسي قرب الباب الشرقي الذي نزل القديس بولس ضيفاً عليه يوم اقامته في دمشق ( أعمال الرسل 9: 11 ) حيث شيد المسيحيون هناك كنيسة قديمة ذكرها كوارزميوس في القرن السابع عشر ، وقد حولها المسلمون الى مسجد و بقي منها قطع من الفسيفساء .
لا نعرف شيئا عما حل بالمسيحيين في دمشق قبل عهد قسطنطين الكبير، من المؤكد نال المسيحيون الدمشقيون نصيب من الاضطهادات والعذابات من قبل الحكام الرومانيين الوثنيين . ولكنهم لم يستطيعوا ان يقضوا على المسيحية في دمشق بعد ان تنصر حاكمها فيليبس العربي في منتصف القرن الثالث ، وهو المولود في عمدان ( اوسابيوس القيصري ). عاد السلام الى دمشق أيام قسطنطين الكبير فازداد المسيحيون وازدهر بناء الكنائس في عهده وعهد ابنه فكانت هناك كنيستان كبيرتان ويرعاهما أسقف يدعى مغنوس الذي ورد اسمه بين آباء المجمع النيقاوي سنة 325 ، كما حضر مع الوفد الأسقفي مجمعاً في أنطاكيا سنة 340 .
ومن اساقفة دمشق أيضا الأسقف فيلبيس الذي حضر مجمع القسطنطينية سنة 380 ويوحنا مجمع افسس 431 وثاودورس مجمع خلقيدونية 451 واستاتيوس مجمع القسطنطينية الثاني 553 .ويذكر ابن عساكر انه كان في دمشق خمسة عشر كنيسة للمسيحيين وجدها العرب عند فتحهم دمشق. وكانت للكنيسة الكاتدرائية الكبرى امتيازات ممنوحة لها كالحماية أو الحرم للجناة الذين يلتجئ إليها فلا يجوز قتلهم أو إيذاؤهم طالما يأوون إليها . ومن اشهر قدسيها : يوحنا الدمشقي، صفرنيوس أسقف أورشليم ،اندراوس أسقف كريت ، بطرس من ميومة ، يوسف الدمشقي .
صور:
لم تدخل المسيحية الى لبنان دفعة واحدة دون صعوبات، بل ان انتشار المسيحية بدأ من المدن الساحلية وخاصة من صور.كان لبنان في الأيام المسيحية الأولى ضمن إقليمين كنسيين:إقليم فينيقية البحرية ، ومركز أسقفيتها مدينة صور وإقليم فينيقية لبنان ، ومركز أسقفيتها حمص.وكان الإقليم الأول يشمل الساحل الممتد من مدينة عكا في فلسطين حتى عكار في شمال لبنان. والثاني يشمل السفح الشرقي من سلسلة جبال لبنان الشرقية والبقاع والسفح الغربي من سلسلة جبال لبنان الغربية ولكن سلخت منه مدينة حمص.
من المعلوم أن كنيسة صور هي من أولى الكنائس التي أنشئت بعد أورشليم ،لان مؤمنيها كانوا قد أظهروا من رباطة الجأش والثبات في الإيمان ما أدهش القديس بولس نفسه .وما مضى على رجم القديس استفانوس بضعة أعوام حتى كثر عددهم ، ومن الصوريين أنفسهم ، ومن اللاجئين إلى تلك المدينة هربا من الاضطهاد ، مما دفع الرسل أن يعمدوا فيها أسقفية مركزية فأصبحت على مر الأيام مرجعا لأربعة عشر كرسيا أسقفيا.ومن أساقفتها المشهورين : كاسيانوس الذي حضر مجمع قيصرية فيليبس عام 190 والذي بحث في قضية الفصح ، وزينون الذي حضر مجمع القسطنطينية الأول. وحين كان القديس بولس عائدا إلى أورشليم بعد سفرته الأولى إلى سورية الشمالية الحّ عليه مؤمنو صور أن يعدل عن فكره لان أعداء الإيمان ينتظرون قدومه ليمتيوه. فشكر لهم عواطفهم الشريفة غير انه بقي مصرا على عزمه فانقادوا لإرادته. لكنهم شيّعوه إلى الشاطئ ، وقبل ان يركب السفينة جثوا أمامه طالبين بركته وصلاته. كذلك القديس لوقا التقى في صور بتلاميذ كثيرين أدهشته قوة إيمانهم .
ما جعل الصوريين يحافظون على وديعة الإيمان هو مرور الرسل بمدينتهم ، فكانوا يقضون بضعة أيام في صور ليحضوا المؤمنين على السلوك بما يفرض عليهم إيمانهم ، ويكسروا لهم خبز الكلمة ، ويثبتوهم في الإيمان ، وينشطوهم للوقوف في وجه المضطهدين. وكان من صور الكثير من الشهداء وأشهرهم : الأسقف تيرانيوس ومثوديوس.في صور بنيت أجمل كاتدرائية كبيرة دمرت سنة 303 ثم أعاد بناءها يولينوس الأسقف،( راجع جريدة النهار 11 كانون الثاني و 2 شباط من عام 1996) ويوم تدشينها خطب اوسابيوس أسقف قيصرية معددا أمجادها . وفي سنة 518 التأم مجمع في صور في الكاتدرائية رئسه ابيفانيوس رئيس الأساقفة لمحاكمة ساويروس.
في عام 636 خُربت صور المسيحية ودُمرت معالمها المسيحية وانقطعت أخبار المسيحيين فيها .وما يلفت النظر في أهمية كنسية صور القديمة ومكانتها ، النزاع الذي حصل بين الأسقف فوتيوس أسقف صور ، وافكاتيوس أسقف بيروت الذي أراد أن ينتزع حق التقدم لأسقفية صور على كل الساحل الفينيقي من صور إلى طرطوس، ورُفع النزاع إلى حكم المجمع المسكوني الرابع في الجلسة الرابعة من 17 تشرين الثاني 453. وبناء على كل ذلك نشأ ، في التقليد الأنطاكي ، ان مطران صور وصيدا هو الذي يسلم عصا الرعاية إلى البطريرك الأنطاكي المنتخب ، وان كان احدث المطارنة سنا ورسامة.
صيدا:
في صيدا تكونت جماعة من المؤمنين زارها الرسول بولس يوم قذفت الريح سفيته إلى شواطئها، حينما كان مسافرا إلى روما. فأقام مدة قصيرة في صيدا، تأكد أثناءها انه مضى عليهم عشرون سنة وهم ثابتون على إيمانهم فسرّ بهم سرورا عظيما. حضر أسقفها ثيودورس المجمع المسكوني الذي انعقد في نيقية سنة 325 0 وفي صيدا عقد مجمع ضم 80 أسقفا هرطوقيا ليحرموا المجمع الخلقيدوني وحاولوا أن يعزلوا فلافيانوس بطريرك انطاكيا ويجلسوا موضعه سايروس الدخيل ، تلميذ مدرسة الحقوق في بيروت 0 ومن شهداءها يذكر زينوبيوس الكاهن الطبيب. وفي سنة 551 نقلت إليها مدرسة الحقوق البيروتية بعد أن دمر الزلزال بيروت. فنالت شهرة مدة 80 سنة.
بيروت:
القديس اقليموس تلميذ الرسل يقول ان الرسول بطرس نزل إلى بيروت وشجع الشعب على طرد سمعان الساحر كما أسس فيها اسقفية ولّى عليها كدراتوس احد السبعين تلميذا. ويقال ايضا ان القديس يهوذا الملقب بتدواس ( محمود ) قد استشهد فيها .وتعد بيروت مسقط رأس القديس بمفيلوس العالم الشهير الذي خلف اوريجانوس في إدارة مدرسة الاسكندرية وأسس مكتبة شهيرة في قيصرية فلسطين واستشهد سنة 308 . ومن شهداء بيروت القديسان يوحنا واركاديوس وافيان من نيقية احد تلاميذ مدرسة الحقوق وايضا من تلاميذ مدرسة الحقوق القديس غريغوريوس العجائبي وأخيه ثوودور والقديس اثيندروس. ومن أشهر أساقفتها غريغوريوس من آباء المجمع النيقاوي وتيموثاوس اللذين وافقا على المجمع القسطنطيني الأول 382 .
إما جبيل ( بيبلوس ) فقد انشأ فيها القديس بطرس الرسول كنيسة ، وسقّف عليها رفيقه وتلميذه يوحنا مرقس 0 وممن خلفوه على كرسي هذه المدينة باسيليوس الذي حضر مجمع القسطنطينية الاول 380 ، وروفينوس احد آباء المجمع الخلقيدوني 451، وبنالّوس الذي ساهم في مجمع انطاكيا 445، وتوادوسيوس الذي شهد المجمع المسكوني الخامس 553. ومن أشهر شهداء مدينة جبيل الشهيدة اكيلينا التي تقدمت الى الاستشهاد من اجل المسيح في عمر لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرها سنة 293 .
ومن المدن المسيحية القديمة المهمة ، مدينة البترون ( لبتريس ). من أساقفتها بورفيريوس الذي حضر المجمع المسكوني الرابع واستفانوس الذي حضر المجمع المسكوني الخامس . من شهدائها القديس لوقيوس أو لوجيوس المعروف شعبيا باسم " نوهرا " .ومن المدن التي زارها الرسول بطرس مدينة طرابلس ومن اساقفتها هلانيكوس وثيودوروس ومن شهداء مغدلتيوس ولاونديوس الجندي .
هكذا دخل الكرسي الإنطاكي تاريخ المسيحية من أبوابه الواسعة ، بحيث تخطى الإيمان المسيحي حدود العالم، فظهرت الكنائس في كل مكان وامتدت من شرق الفرات إلى بلاد فارس وصولا إلى الصين والهند .من الواضح أن الجماعة المسيحية الأولى في أنطاكيا كانت نقطة أو بداية انطلاق ومسؤولية حمل البشارة إلى العالم ، على أساس الإيمان والعماد باسم المسيح وحده .
هذا الكرسي الإنطاكي له عمق روحي وتجذر تاريخي وأفق روحي وحضاري وإنساني ، عمق هذا الكرسي إلى السماء لهذا الكرسي تجذر في المسيحية منيع وعريق في التاريخ والحضارة . " ... سيتعلم العالم من الكرسي الأنطاكي أن الروح القدس واحد وانه يوحّد ، وانه ليس على الإطلاق واسطة يمحو بها الإنسان أخاه الإنسان " ( اغناطيوس الرابع .. مواقف وأقوال ).
لذلك من أولويات الكرسي الأنطاكي التقارب والتلاحم المسيحي الإسلامي . المسيحيون العرب والمسلمون العرب هم في موقع واحد، في تاريخ واحد ، في مصير واحد ، في وقفة واحدة تحت مظلة الله الواحد الأوحد.
لعل هذا يحقق حلم القديس باسيليوس الكبير فينا لما كتب للقديس اثناسيوس الكبير :
" ما عسى ان يكون لكنائس الأرض شيء أكثر حيوية من أنطاكيا".
تــــم نقـــل هذا المنتدي إلي موقع آخــــر ... 
الإثنين يونيو 30, 2014 3:03 am
