رسم الصليب:
تاريخ وتطور ومعنى
الأب د. يوحنا اللاطي
أيلول 2009
تاريخ رسم الصليب وتطوره
في كنيستنا الأرثوذكسية، رسم الصليب الذي نمارسه اليوم من الجبين إلى الصدر إلى الكتف اليمين فاليسار وبثلاثة أصابع مضمومة وإصبعين منكفئين على راحة اليد شاع في القرن الثامن. قبل ذلك كان هناك رسم صليب صغير على الجبين فقط وبإصبع واحد. كلا الأمرين لهما أصل كتابي. أ) كان المسيحيون الأوائل يَسِمون جبينهم بعلامة يعود أصلها إلى العهد القديم: في حزقيال (9: 4)، الجماعة الماسيانية بإيعاز من الله وسمت جبينها بعلامة تاف، آخر حرف من الألفباء العبرية. التاف العبرية تشير إلى الله كما الأوميغا في اليونانية والياء في العربية. زمن المسيح، يمكن أن يكون رسمها هكذا: + أو x. "من لا يحمل صليبه ويتبعني..." يمكن أن تعني العلامة المرسومة على الجبين. هذه العلامة هي إسم الآب أي الابن: إسم الآب هو الابن. في الرؤيا إسم الحمل واسم الآب مكتوب على الجبين (14: 1). عندما صارت الجماعات يونانية في غالبيتها صارت التاف العبرية التاء اليونانية وصار معناها الصليب بسبب شبه العلامتين. هذه العلامة عَنَتْ منذ البداية غلبة الابن بالموت وأطراف الصليب دلت على السمة الكونية لهذا الفعل الخلاصي. هذا بالتالي تطور أول من علامة اسم الله إلى علامة تدل على الصليب لشبه الإثنين. ب) كانت العلامة تتم بالخنصر أو بالسبابة. مباركة الماء والأشياء بأصبع واحد في الكنيسة الأولى كانت سائدة. في لاويين (14: 16) يتم دهن المتطهر (الأبرص) بالسبابة اليمنى من الزيت في كف اليسرى.
ظهر رسم الصليب أولاً في طقس المعمودية. رسم الصليب على الجبين كان طقس الموعوظين الأول: الحبل يتم بالصليب والولادة بالمعمودية. رسم الصليب دائم الفعالية. لا عودة عن الانتماء ليسوع. إنها دمغة أبدية. ثمة عظات عديدة قديمة تحض على إبقاء الجبين مشدداً وعلى عدم خيانة علامة الله وعلى بقائها نقية: الجبين الذي يطهره الصليب بركة لكامل الجسم وهذا الجبين لا يقدر عليه الشيطان. الصليب درع المسيحي أينما كان.
كانت تسبقه أيضاً حركة نفخ في اليد -كما في المعمودية: النفخ في الوجه وفي فم الموعوظ طارد للشيطان. كان يطلق على المسيحيين نعت الذين يرسمون الصليب وينفخون (في أيديهم).
ثمة أيضاً إشارة آبائية من القرن الثاني: طرد الشيطان ترافقه علامة الصليب على الجبين والأذنين والمنخرين: في هذا كله إستعادة للمعمودية. هذا تطور ثان: الصليب على الجبين صار أيضاً صليباً على المنخرين والأذنين.
ثمة إشارة آبائية من القرن الرابع إلى رسم الصليب على الجبين والفم والقلب، وعلى اليدين: على الجبين والفم لأننا يجب أن نكرز بيسوع، على القلب لأننا يجب أن نحبه، على اليدين لأننا يجب أن نعمل لأجله. لا بد أن أربع علامات الصليب على الجبين والقلب واليدين وبالتالي الكتفين أدت إلى العلامة الكبرى للصليب -الشائعة اليوم- التي حلت محل هذه. من الأكيد أن هذا الرسم الكبير للصليب كان شائعاً في القرن 8 (راجع سيرة القديسة نينو مثلاً). هذا تطور ثالث لرسم الصليب.
خلال أزمة المونوفيزيين والمونوثيليين، قام الأرثوذكس برسم الصليب بإصبعين – الدالين على طبيعتين ومشيئتين- رداً على الذين ربطوا رسم الصليب بإصبع واحد بعقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة. السلافيون مثلاً بقوا يرسمون الصليب بإصبعين حتى القرن 17: البطريرك تيخون عمَّم صليب اليونانيين بثلاثة أصابع. صار الصليب علامة عقائدية. من هذا نفهم أيضاً لماذا المؤمنون أرادوا رسمه أيضاً كبيراً على الجسم. من هنا أيضاً نفهم لماذا الكنيسة استبدلت صليب الإصبعين بثلاثة تكريماً للثالوث بعد انتهاء أزمة المونوثيليين: المسيحي معمد على اسم الآب والابن والروح القدس. هوية المسيحي تأتي من علاقته بالثالوث. ربما كانت ترافق علامة الصليب منذ الأساس عبارة المجد للآب والابن والروح القدس الآن وفي كل أوان وإلى دهر الدهور. آمين. تعمم الصليب بثلاثة أصابع في الشرق والغرب. هذا تطور رابع وخامس لرسم الصليب في الشكل والمضمون. على مستوى المضمون تحول إلى علامة عقائدية.
رسم الصليب بثلاثة أصابع هذا شاع إذاً منذ القرن الثامن في الشرق وفي الغرب علماً أنه في الغرب ليس من وثيقة قبل منتصف القرن الثاني عشر تدل على استعماله. من الوثائق، في الغرب، ثمة تواتر بين الصلبان الصغيرة والصليب الكبير بثلاثة أصابع مع الصلوات. في الغرب، الصليب من الكتف اليسار إلى اليمين، خلافاً للآباء، تجديد حدث بين القرنين 8 و13. هذا لاقى معارضة غير قليلة لكنه ساد في القرن 16. السبب غير معروف. ربما هذا يعود إلى صليب مباركة الكاهن من اليسار إلى اليمين وإلى بساطة الناس أحياناً. أو إلى رغبة في رسم للصليب يميز كنيسة الغرب عن الشرق. وربما هذا السبب عينه أدى إلى التجديد الغربي الآخر بخمسة الأصابع. رسم الصليب في الغرب أيضاً كان دائماً بثلاثة أصابع. لكن من القرن 8 بشكل جزئي إلى القرن 13 بشكل واسع حدث تغيير إلى صليب بيد مفتوحة.
معاني رسم الصليب
من الوثائق، ليس من تأويل واحد لرسم الصليب:
1- في الغرب والشرق، كان الصليب يتم بثلاثة أصابع لارتباطه بالثالوث ولأن الله حمل الأرض على ثلاثة أصابع.
2- باسم الآب -على الجبين- والابن –على الصدر- لأنه نزل والروح القدس –على الكتف الأيمن- هي صورة الثالوث المثلثي. آمين –على الكتف اليسار- إقفال المثلث بحركة شبه دائرية أمام الوجه.
3- باسم -على الجبين- الآب -على الصدر- لأنه الضابط الكل والابن (المولود) -على الكتف الأيمن- (يمين الآب) والروح القدس (المنبثق) -على الكتف الأيسر- (يسار الآب). آمين.
4- رسم الصليب رسم مشروع الله: الابن نزل من السماء –الجبين- إلى الأرض ومات ودفن –الصدر- وقام وصعد إلى السماء –اليد الصاعدة- وجلس عن يمين الآب –الكتف الأيمن- وأرسل الروح المعزي –الكتف الأيسر- وأيضاً يأتي بمجد ليدين الجميع –الصدر أو القلب (قلب المشروع).
5- من فوق إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار لأن المسيح نزل من السماء على الأرض وانطلق من اليهود إلى الأمم.
يربط اللاتين رسم الصليب بخمسة الأصابع بجروح المسيح الخمسة: اليدين والرجلين والجنب وبأربعة الأصابع بثلاثة المسامير والحربة. هذا يعكس حتماً لاهوت اللاتين الذي يرى في الصليب آلام المسيح. الأرثوذكس يرون في الصليب الغلبة على الموت وبالتالي القيامة.
يرسم اللاتين الصليب من الكتف اليسار إلى اليمين لأن المسيح انتقل من الموت إلى الحياة ومن الجحيم إلى الفردوس ولأنه نزل من السماء إلى الأرض ثم إلى الجحيم –الكتف اليسار- وبعد صعوده إلى السماء جلس عن يمين الآب –الكتف اليمين.
كلمة أخيرة
في طقس المعودية اليوم في كنيستنا الأرثوذكسية لا يزال رسم الصليب الجبيني قائماً مع النفخ: ينفخ الكاهن في وجه الموعوظ ثلاثاً ويرسم على جبهته وعلى صدره شكل صليب ثلاثاً قائلاً على كل مرة: باسم الآب والابن والروح القدس آمين. ثمة نفخ في فم الموعوظ وعلى جبهته وفي صدره ثلاث مرات مع: أبعد منه كل روح شرير نجس مخفي معشش في قلبه. "أنفث وابصق على الشيطان" يقولها الكاهن للموعوظ. ينفخ الكاهن ثلاث مرات في وعاء الزيت ويرسم على الزيت شكل صليب. يدهن الكاهن الطفل بالزيت شكل صليب بالسبابة على الجبين والصدر وعلى الظهر واليدين والرجلين. يمسح الكاهن الطفل بالميرون شكل صليب على الجبين وعلى العينين وعلى المنخرين وعلى الفم والأذنين والصدر والظهر واليدين والرجلين.
كلها صلبان صغيرة تسم كامل الجسم الذي يتمرغ بها. طقس أمين لوصية الآباء في بسط هذا الصليب على كل جزء فينا وعلى كل شيء في حياتنا وفي إِعماله بعد ذلك قبل كل حركة وتحرك. عندما تغلفنا بركته برسمه يرتعد المجرِّب.
تــــم نقـــل هذا المنتدي إلي موقع آخــــر ... 
الجمعة يناير 17, 2014 11:20 pm
