المحبة في اللاهوت المسيحي (المولود الجديد)

المحبة في اللاهوت المسيحي (3)
الشماس اسبيرو جبور ( صقر انطاكيا)
-----------------------------------
الفصل الثاني
المولود الجديد
=========================

تكون الولادة غالبا حدثا يثير الدهش والإختطاف وانفجار قنابل من العواطف الحارة. يعجز الأهل عن ضبط الأعصاب والسيطرة على النفس فتفيض العواطف على المولود وأمه. ثم تعتري البرودة يوما هذا الفيض وبخاصة عندما تظهر صعوبات التربية ويتدخّل الحزم والحسم لضبط شرودات الطفل وغلاظاته. يخرج المولود وهو غضّ من الحشا الدافئ الذي كان يعيش فيه مكتفيا، الى العالم الخارجي فيصدم بهذا العالم الغريب عنه ولا يتحمل الصدمات. هذه تكون النكسة الأولى التي توقظ في الطفل الحنان إلى حشا أمه. هذه الصورة إنما هي الأولى للكثير من نكسات العمر لاحقا. نحن إذا أمام الصراع الأول بين انفعالية الجنين، وبين إيجابية الطفل عند ولادته للدفاع عن نفسه ضد الإثارات التي تهاجمه من الخارج.
لاهوتيا، أعرف أن طبيعتي الساقطة هي موروثة من طبيعة آدم وحوّاء. فيها كل عظمة الصورة الإلهية وكل انحطاط السقوط والخطيئة. تخرج الحيوانات من البطن الى الثدي دون تدريب، وهذا ليس بغريب أبدا إنما هي حكمة ربّنا. تقوم الحيوانات في البراري حين الولادة بأفعال لا يستطيع الإنسان أن يجيدها إلا بعد علم وتدريب وجهد شخصي لا عشوائي. يتصرف الحيوان عفويا في ميدان حاجات حياته، أما الطفل فهو صفر مكعب. ولكن عندما يتدرّب فهو لن يضيع في ميدان حاجات الحياة، بل قد يرنو الى آفاق العلم والثقافة والروحانية.
في طفولتي، رأيت أطفالا يرضعون حتى يستفرغوا والسبب هو جهل الأمهات. تنشأ الشراهة والطمع منذ الطفولة الباكرة فضلا عن نشوء علاقة متناقضة عند الطفل، فهو يعشق الحليب ويلتهمه ومتى خرجت أسنانه قام بعضّ حلمة أمه. هذه تكون أولى مظاهر تشابك الحبّ والكراهية لديه. يتعلّق الرضيع بأمه فيرمق عينيها مذهولا ويضع يده على صدرها، فالتعبير عنده باللمس والنظر يكون قويا. يمتص أمه عن طريق الشعور لا عن طريق النطق. فلذلك تكون النشأة محمودة في الرضاعة الناجحة والطفل مضموما الى صدر أمه، لا مغذا بحليب الحيوانات.
نولد ولنا نواة شخصية خفية. المهم في الأم تربويّا هو مسلكها وحركاتها أولا هذا ما يمتصّه الولد قبل أن يتعلّم الكلام وحتى بعده. على الأب والأم أن يراقبا نفسيهما لأنهما نموذجان يمتصّهما الولد. الرضاعة هي زمان تنشئة شخصية الطفل، وتركيز سلوكه، وتعليمه الإعتدال. يتغذى الطفل بالعواطف الى جانب تغذيته الجسدية. والمهم هنا هو أن نربّي شخصيّته فتنمو متينة حازمة منفتحة على الغير بعطف وحنان وتفهّم وأنس. أما الإفراط الصرف بالعواطف، فقد يطمس شخصية الطفل ويحشو أنانيته وكبرياءه فتنمو لديه الغيرة والحسد، والغضب، والكراهيات وكل ما يرتبط بها.
منذ الطفولة الباكرة ينمو التضادّ النفسي ambivalence ) (. هذا التضادّ يجعل الطفل أهلا لكل ألوان التبدلات، من أقصى السلبيات إلى أقصى الإيجابيات. ويكون ايضا مسؤولا عن شوائب علاقات الناس ببعضهم بعضا. قد نرى أمّا تغالي في محبة أولادها فتفسد تربيتهم على قاعدة: "ومن الحبّ ما قتل". هذا القلق الفاحش ما هو إلا مزيج من الحبّ والأنانية والعدوانية. قد نرى آباء يدافعون عن قبائح أولادهم لأنهم يعشقونهم فلا يرون السيئات، وقد نرى آباء يتراخون فينشأ الأبناء مائعين، وآباء يقسون في تربيتهم فيشوّهون بنية أبنائهم. لا يمكن إحصاء الحالات لأن التضاد يجعلنا مكوكا يروح ويعود مع عدم الإستقرار. لا محبة دائمة، ولا ولاء دائم، ولا وفاء دائم، بل تقلّبات وخيانة وغدر وريبة وكذب ودجل ونفاق وإيذاء ووشايات وافتراءات ونميمة... ما أن تطفح عواطفنا حتى تتراجع. الأم التي تتمسك بابنها وكأنه جزء منها، تأسر حريته واستقلاله. إرادة التملك للطفل تكون أحيانا قوية لدى بعض الأمهات فيكبّلن الولد بالأصفاد أو يدفعنه الى التمرد.
والمطلوب هو احترام شخصية الطفل وفرادته وحريته نسبيا في جو عاطفي حنون، ومساعدته على الإنفتاح على الغير والأنس. الأنانية هي عدو للإنسان. على الأهل أن يخرجوا الطفل من القوقعة الداخلية الى رحاب العالم الخارجي وذلك بصبر جميل وتدرّج، وبرحابة صدر، لا في العجلة. في شرق متوسطنا، التوتر العصبي قوي جدا، والرد على الإثارة يكون فوريا. فلا سيطرة عفوية لنا على أعصابنا.
في النهاية، لا محبة قبل تفريغ الإنسان من شوائب التضاد الموجود منذ طفولتنا الباكرة. تتسكّع لدينا حياة الفضيلة والتقوى ويكثر المتأرجحون والمائعون، والساهون والجبناء. لا نرى مقداما ولا طالب استشهاد لأن الجلود ناعمة حسّاسة، والأمزجة رقيقة، والأنانية ضاربة أطنابها. الساحة خالية من الرجال الصناديد الذين يبذلون أنفسهم من أجل يسوع. فالتعلق بالذات فاحش، والتعلّق بيسوع باهت. لا إيمان ينقل جبال الخطايا (مكسيموس المعترف) ولا محبة تذيب جليد قلوب البعيدين عن الله. رياء برياء.
المحبة الطاهرة من كل القلب، البريئة من الرياء، هي ثمرة ناضجة من ثمار الروح القدس لدى الروحانيين، والباقي كله تمثيل وتهريج وخداع ومراوغة ونفعية. تستر المنفعة بالمحبة، أفعى تلتهم الحبيب نفاقا ودجلا. أحدهم رفع شخصا من المزبلة الى الثراء. انقلب الزمان عليه فطلب من الأخير قرضا فصدّه، فعضّ أصابعه ندامة. هذه هي الحياة اليوم: إما أن تكون مع المسيح، وإما أن تكون مع عدوه إبليس.
النشأة المعيبة ذات عاهات، فلا وحدة في الشخصية ولا انسجام. في هذه الأيام يكثر الحسّاسون الرقيقو المزاج، الضغفاء الشخصية، الجبناء. عاطفية الأمهات وحتى الآباء أيضا تغتال الرجولة، فتضعف شخصية الأبناء فتزداد الوداعة الكاذبة التي تقوم على كبت الغضب لا على تحويله الى رحابة صدر، وصبر جميل، وتواضع عميق، ووداعة حقيقية، ومحبة خالية من الحقد. هذه العاطفة الرقيقة الجبانة تجعل النساء يخشون البرد أو سواه فيؤخرن معمودية الأطفال، ويتْخمْن أطفالهن بالطعام بدون نظام وتوقيت واعتدال فيخشين الصيام والحرمان. قد تصوم الأمّ ولا تدرّب أولادها على الصيام، فهي تجهل أن الحرمان والصيام يقوّيان إرادة الأطفال وسيطرتهم على أنفسهم كما يقويان أيضا شخصياتهم.
سادت عندنا فكرة: لا تحرموا الطفل لئلا تعقّدوه. والنتيجة ميّعوه وخنثوه. التربية الروحية تركّز على قوة الشخصية العطوف الحنون المعطاء، لتسقط نظرية الرخاوة والميوعة.