الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا

زائر

الأسبوع العظيم المقدّس scratch

في لاهوت وليتورجيا
الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة المقدسة الرسولية

ها قد بلغنا ذروة رجائنا وأهّلنا الرب للمشاركة مجدداً في الحوادث الخلاصية، ونحن اليوم نقف على أعتاب الأسبوع العظيم المقدس الذي يُعتبَر أعظم أسابيع السنة الليتورجية في الكنيسة على الإطلاق، بل هو غاية كل الأيام الأخرى ومبتغاها وهدفها بلا منازع. نجد أنه لا بد لنا من وقفة مع ذواتنا نراجع فيها حساباتنا ونتأمل معاً في سر ومعاني هذا الأسبوع الحافل بالأحداث والصلوات ، والذي نتوّجه بحدث قيامة ربنا ومخلصنا وإلهنا يسوع المسيح الظافرة من بين الأموات ، الذي هو عيد أعيادنا ورأس مواسمنا وغاية حياتنا ورجاؤها.

لم نبلغ الأسبوع العظيم المقدس إلا بعد أن قطعنا شوطاً طويلاً وصعباً من الإستعداد الجسدي والروحي، أرادت الكنيسة من خلالها إعدادنا للمشاركة في أحداث الخلاص المقدسة . فقد بدأنا قبل بدء الصيام الكبير بأربعة أسابيع ودخلنا بما نسميه في كنيستنا " زمن التريودي Τριῴδιον ; Triodion "، وهو اسم يوناني معناه " القصائد الثلاث " ويشير بها إلى تلك الترانيم الثلاث المحبوبة التي تفيض بروح االتوبة وتدعو لها كاستعداد للبدء بالصيام العظيم المقدس والتي تقول :

افتح لي أبواب التوابة يا واهب الحياة لأن روحي تبتكر إلى هيكل قدسك آتياً بهيكل جسدي مدنّساً بجملته،
لكن بما أنك متعطّف نقّني بتحنّن مراحمك

سهّلي لي مناهج الخلاص يا والدة الإله لأني قد دنست نفسي بخطايا سمجة وأفنيت عمري كله بالتواني،
لكن بشفاعتكِ نقّني من كل رجاسة

إذا تصوّرت كثرة أفعالي الرديئة أنا الشقي فإنني ارتعد من يوم الدينونة الرهيب لكنني
إذ انا واثق بتحننك أهتف إليك مثل داود:

ارحمني يا الله بحسب عظيم رحمتك

ويمكن اعتبار زمن التريودي مؤلفا من ثلاث مراحل:

الاولى وهي الـمهيئة للصيام : 4 أسابيع
والثانية الصيام الأربعيني : 5 أسابيع
والثالثة اسبوع الآلام الـمقدس

تفتتح الكنيسة هذا الزمن المقدس بـ " أحد الفريسي والعشار "، فتدعونا للهروب من تشامخ الفريسي وكبريائه وأن نتعلّم الإنسحاق والتواضع كما فعل العشار في المثل الإنجيلي المعروف، ونصرخ لله ان يرحمنا فنحن أول الخطأة وأعظمهم ، نتعلم ألاّ ندين وألا نكره وألا نرى في الآخر سوى صورة الله التي فيه : " لا نُصلينّ يا أخوة فريسياً لأن من يرفع نفسه يتضع، فلنتذلل أمام الله متضعين ولنصرخ بواسطة الصيام بصوت العشار قائلين: اللهمّ اغفر لنا نحن الخطأة ". وهذا هو أول الدروس التي يجب تعلّمها وهي انسحاق النفس ومعرفة أننا خطأة نحتاج لرحمة الله وليس أن نذكر امامه فضائل صنعناها وأعمال برّ قمنا بها ..

الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا Publicanpharisee

الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا Publicanpharisee

يأتي بعده "أحد الابن الشاطر" الذي تشدّد فيه الكنيسة على محبّة الله اللامتناهية، تلك المحبّة التي تقبلنا إذا قررنا بصدق العودة من اغترابنا إلى أبينا الذي يبقى أمينًا على محبّته مهما ابتعدنا. إنه أبلغ ما نطق به السيد له المجد: فتى يحب العيش الرغد، "سافر إلى بلد بعيد" تدل على أنه لا يطيق القربى من أبيه الذي يحبه، لكن يقول رجع إلى نفسه" في ساعة وعي وامتحان للضمير :" لست مستحقًا أن أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أجرائك". "فقام ورجع إلى أبيه"! لم يقل لوقا فقط الى أبيه ولكنّه قال قبل ذلك قام. قام من أعماله القذرة، وتخلص منها بالتوبة ثم تحرك نحو والده. يقول الكتاب :"وفيما هو غير بعيد رآه أبوه فتحنّنن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله". ولم يقل: انتظره لكي يدخل أو يعتذر أو يبكي ... الشوق دفعه ذلك الآب الذي ينتظر يومياً عودته الى أن يخرج هو إليه ويفرح به ، وكيف يراه من بعيد لو لم يكن قد انتظر تلك العودة في كل لحظة .

الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا Prodigalson

الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا Prodigalson

تذكرنا الكنيسة في هذا الأحد الثاني من التهيئة بأن وقت القرار قد حان

" إذ بدّدتُ غنى المنحة الأبوية أنا الشقي ، رعيتُ مع البهائم العادمة النطق ،
وكنت أشتهي غذاءها فأتضوّر جوعاً إذ لم أكن لأشبع .
لذلك أعود راجعاً إلى الآب المتحنن هاتفاً بعَبَرات :
اقبلني كأحد أجرائك إذ أنا جاثٍ تجاه محبتك للبشر وخلصني ".

ثمّ يأتي "أحد الدينونة أو مرفع اللحم" الذي تقرأ فيه الكنيسة إنجيل الدينونة والمجيء الثاني للسيّد المسيح، وفيه أيضًا يكمن البعد الاجتماعيّ بين البشر، فالمسيح موجود في الفقير والمسكين والجائع والعطشان والأسير، ومَن يساعد أحد هؤلاء المستضعَفين فقد ساعد المسيح نفسه. ينبغي أن نبحث عن المسيح في الفقراء والمحتاجين وليس فقط في الكتاب المقدّس والكنيسة والصلاة. فإذا تصاعدت نفسك الى المسيح بالصلاة والتوبة وعزمت على ترك غربتك والرجوع إليه فإنك صرت ذبيحة له. ولكن كي تمتحن صدق صلاتك وعمقها وتوبة نفسك لا بد من أن تذهب الى أخيك الانسان الذي هو مخلوق على صورة الله مثلك. واذا ذهبت الى هؤلاء يكونون هم سبب تقديسك ويرفعونك ذبيحة الى المخلّص وتندمج هكذا بآلامه وعند ذاك لك أيضاً القيامة معه.

لماذا وضعت الكنيسة هذا الإنجيل " إنجيل الدينونة والمجيء الثاني المجيد " قبل الصوم؟
ذلك أن بعضا من الصائمين يظنّون أنّهم "يشترون" المسيح بصيامهم. الصيام ليس استعطافا لله الا اذا دعوته لكي يملأ قلبك . وتريد الكنيسة منّا الصوم جهاداً نتروّض فيه على محبّة القريب، فإذا أمسكنا فلنعطي ما لنا للجائع ونعود المريض ونؤوي الغريب وما الى ذلك. ليس الصوم رياضة جسديّة بل وسيلة لترويض القلب على المحبّة. واذا عشناها صادقين يضمّنا السيّد الى صدره كما ضمّ التلميذ الحبيب في العشاء الأخير السري : " لنسبق أيها الأخوة وننقي أنفسنا بملكة الفضائل، فها هي قد وافت جالبة لنا الثروة الصالحة مخمدةً نهضات الأهواء ومصالحة الأثمة مع السيد . فلنستقبلها بسرور هاتفين إلى المسيح الإله : يا من قام من بين الأموات احفظنا غير مُدانين نحن الممجدين إياك أيها العادم الخطأ وحدك " .

بعد هذا الحد نمسك عن تناول اللحم استعداداً للدخول في الصوم الكبير ونبقى نتناول المشتقات الحيوانية لأن الكنيسة تريد أن تأخذ بيدنا تدريجياً نحو الصوم المبارك

أيقونة المجيء الثاني والدينونة
الأسبوع العظيم المقدّس في لاهوت وليتورجيا Icon_second_coming_1700

الأحد الرابع من فترة التهيئة هو " أحد الغفران أو مرفع الجبن "، وهو اليوم الأخير قبل بدء الصوم. الموضوع الرئيسيّ لهذا الأسبوع هو المغفرة والمسامحة، فالدخول في الصوم يتطلّب أن يتبادل كلّ إنسان مع أخيه الإنسان الغفران والمسامحة. وتبدأ القراءة الإنجيلية بقول السيّد:" إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي أيضًا، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلاتكم". وفي بعض كنائسنا الأرثوذكسيّة ليس فقط يستغفر بالكلام ولكن يجثو كل من المؤمنين أمام الآخر ويقبّله. المهم إن أساء أحد إليك الا تقيم عليه خطيئة لعلّه يعود الى محبّتك. ولا تشقَ أنت بالإساءة التي وجّهت اليك وتنسى جرحك كيلا تصبح سجينه.بل انتقل من جرحك الى بناء الآخر وخدمته وأن تسعى اليه سعي الراعي الى الخروف الضال وأن تجعل في قلب الآخر المسيء ذلك السلام الذي يحس بواسطته بأنّه أضحى أخاك وابناً لله. فاذا ما بقيت على حقدك وغضبك تجاه المسيء فإنك بهذا تحوّله الى عدو دائم.

في الكنيسة الارثوذكسية عند نهاية الغروب ينحني الكاهن امام المؤمنين وينحني امامه كل مؤمن حتى الأرض ويقبّله، ثم يجثو كل مؤمن امام الآخر ويتشكل هكذا صف بحيث يكون كل واحد قبّل كل الحضور، وفي هذا السجود العميم يرتل الروس قطعا من عيد الفصح، كل هذا لكي نعبر عن أن صياما بدون محبة الإخوة ومسامحة من لنا عليه هو عمل عقيم

" واغفر لنا .. كما نغفر نحن.. " .

غداً ، بعد أحد الغفران تدخل الكنيسة الفترة الثانية من زمن التريودي وهي زمن الصوم الأربعيني المقدس مرتلة " إن موسى في زمن الإمساك قد تقبّل الشريعة واقتاد الشعب ، وإيليا لما صام أغلق السماوات ، وأما الفتية الإبراهيميون الثلاثة فقد قهروا بالصيام المغتصب المتجاوز الشريعة . فبواسطته أهّلنا يا مخلص أن نحظى بقيامتك هاتفين هكذا : قدوس الله قدوس القوي قدوس الذي لا يموت ارحمنا ".