منتديات افا كاراس ومارجرجس بالغابات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



منتديات افا كاراس ومارجرجس بالغابات
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
تــــم نقـــل هذا المنتدي إلي موقع آخــــر ... ننتظر انضمامـكــم لأسرة منتدانا لنخدم معاً كلمة الرب ... منتديات افا كاراس ومارجرجس بالغابات


 

 أنجيل مرقس

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:10 pm

المقدمة

إذا رُمنا فهم أفكار الروح القدس في ما يتعلق بإنجيل مرقس فهمًا أفضل وجب أن نفحص تعليمهُ في الأناجيل الأربعة فحصًا مختصرًا. فهذه الأناجيل تعرض لدينا المسيح، لكنها تبين لنا مسيحًا مرفوضًا وفي الوقت نفسهِ تقدّم لنا المخلص في أربعة مظاهر، ثم يوجد فرق بين الأناجيل الثلاثة الأولى والإنجيل الأخير. فالثلاثة الأولى تعرض المسيح بمظهر إنسان يجب أن يقبلهُ العالم وإن كانت النتيجة تفرض عليهِ تجرُّع غصص المنون، أما في الإنجيل الرابع فنرى يسوع مرفوضًا من خاصتهِ من الأصحاح الأول فصاعدًا ونرى أيضًا أنه ينظر إلى اليهود كمرفوضين من أولهِ وليس للمسيح قبول إلا عند المولودين من الله وبالنتيجة نُعاين مبادئ النعمة في هذا الإنجيل ظاهرة ظهورًا كاملاً كما قيل: لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني (يوحنا44:6)، فالخراف متميزة عن العالم قبلما دُعيت. فالأناجيل الثلاثة الأولى تجلو المسيح لدى أبصار البشر جلاءً يدعوهم لقبولهِ. ثم تبيّن لنا تاريخ عداوة الإنسان المتزايدة نحوهُ وأخيرًا تصرّح لنا برفضهِ وموتهِ.
أما الصفات المختصة بكل إنجيل على حدى فهي إن إنجيل مَتَّى يعتبر المخلص عمانوئيل ومسيَّا الموعود به ويهوه الذي يُخلَّص شعبهُ من خطاياهم. فمعنى اسم يسوع «يهوه المخلص»، ومنَ ثم يتسلسل نسبهُ من إبراهيم إلى داود رئيسي المواعيد وآنيتها اللذين كان مزمعًا إن يتسلسل منهما المسيح. ففي هذا الإنجيل الأول رُفض المسيح أدبيَّا من وقت ما أظهر ذاتهُ لشعبه بحسب حقيقة شَخصهِ وإرساليته لغاية (أصحاح 12) فحكم على اليهود بالقضاء الإلهي حكمًا شمل الأمة بأسرها. فلم يطلب الرب ثمرًا في كرمهِ بعد، بل يُصرِّح بالحقيقة انهُ هو الزارع ويعلن الملكوت إنما إعلانًا سريَّا (أي على الأسلوب الذي يكون الملكوت عليه في غيابهِ)، وفي (أصحاح 16) يذكر الكنيسة التي سوف يبنيها هو نفسهُ بعد موتهِ ثم يذكر عدَّة أمثال في شأن أحوال ملكوته مدة غيابهِ مُصَرحّا انهُ مزمع إن يأتي بقوة لينقي ملكوته ويقيمه فعلاً على الأرض في حالٍ يوافق مجدهُ. ثم حوادث حياته الأخيرة وبعض خطاباته.
أما مرقس فيرسم لدينا صورة المخلص بمظهر خادم ونبي، ومن ثم لا يذكر شيئًا من تاريخ ولادته، بل يبتدئ إنجيله بذكر خدمتهِ وسوف نتكلم عن مضمونهِ. وأما إنجيل لوقا فيصوّر المخلص بصورة ابن الإنسان فنرى به صورة النعمة والعمل الجاري الآن. ويذكر سلسلة نسبهِ حتى آدم. فالأصحاحان الأولان في ذلك الإنجيل يُعلنان لنا بقية اليهود القليلة العدد التقية وما تلك إلا صورة بديعة عن عمل روح الله في وسط أمة شريرة وفاسدة. فأولئك القوم الأتقياء كانوا يعرفون بعضهم كل المعرفة وكانوا ينتظرون فداء لإسرائيل. فقد أنذرت حنة الطاعنة في السن التقية قومها المتوقعين الخلاص بحضور المخلص المنتظر. وفي الأجزاء الباقية من هذا الإنجيل يبدو لنا المسيح في صورة مخلَّص للأمم.
أما إنجيل يوحنا فلا يذكر شيئًا عن نسب المسيح قط، بل أن الكلمة الذي هو ابن الله صار جسدًا فهو الخالق ابن الله الذي لم يعرفهُ العالم وخاصتهُ لم تقبلهُ. فكل الذين يقبلونهُ يكونون أبناء الله؛ لأنهم وُلدوا بالحقيقة منهُ. وبما أن هذا الإنجيل يُعلن المسيح كصورة الله المُعلنة فلهذا السبب نفسهِ نراهُ مرفوضًا كل الرفض فإن البشر لا يطيقون مَجد شخصهِ، ولكنهُ يجمع خرافه الخاصة من اليهود والأمم ويُعطيها حياةً أبدية ولن تهلك إلى الأبد. ثم يوضح لنا في ختامة إتيان الروح القدس


أنجيل مرقس Aa4 يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:12 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح الأول
1 بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ، 2 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ:«هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4 كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 5 وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 6 وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. 7 وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:«يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8 أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». (عدد 1-8).
قلنا أنهُ يبتدئ بذكر خدمة المخلص وهو غير مسبوق سوى بشهادة يوحنا المعمدان الذي يعدّ طريق الرب ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ويُنذر بخادم الله الفائق المجد الذي ليس بأهل أن يحلّ سيور حذائهِ؛ فلذلك يُعمد بالروح القدس. أما معمودية النار فلا تُذكر هنا لأن الموضوع إنما هو خدمة المخلص المقترنة بالبركة لا خدمتهُ في إجراء سلطانهِ بالدينونة فأن النار تدل دلالة واضحة على الدينونة والقضاء.
9 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10 وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. 11 وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». (عدد 9-11).
فالسيد يخضع لمعمودية يوحنا، هذه هي حقيقة خطيرة جزيلة الأهمية والبركة للبشر. فإنه له المجد يأخذ هنا مكان شعبهِ أمام الله. ولا حاجة لي لأن أقول أن المخلص لا يفتقر لتوبة بل شاء أن يُرافق شعبهُ في الخطوة الأولى الصالحة التي يجب أن يسيروا بها تحت قيادة الكلمة وسطوتها. ذلك كان يُحسب عندهُ إتماما لكل برّ. فقد قادتهُ المحبة والطاعة إلى إنقاذنا في كل مكان ساقتنا إليه الخطية إنما هنا يأتي مع خاصتهِ. ففي الموت أخذ مكاننا وحمل اللعنة وصار خطية لأجلنا. أما هنا فقد تبوأ مكانهُ كإنسان تام بالنسبة لله الآب ذلك المكان الذي حصله لنا بالفداء. وقد أصبحنا به أبناء الله.
فانفتحت السماء وحلّ الروح القدس حلولاً كاملاً على إنسان في شخص المسيح والصوت من السماوات المفتوحة صادق على بنوتهِ. ويعترف الآب بنا أيضًا كأولادهِ بالمسيح يسوع، فإن يسوع مُسح وخُتم بالروح القدس نظيرنا أما هو فلأنهُ أهل لذلك شخصيًا وأما نحن فلأننا قد جعلنا أهلاً لذلك بعملهِ ودمهِ. فقد انفتحت السماء لنا وانشق الحجاب فنستطيع أن نصرخ يا أبا الآب. فيا للعجب من هذه النعمة ومن هذه المحبة الغير محدودة! وهي أن ابن الله صار إنسانًا لكي نصير أبناء الله كما فاه نفسه بذلك بعد قيامته إذ قال: «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:20)، فما تلك إلا مقاصد الله المجيدة التي لا يُعبر عنها وهي أن نشترك مع ابنهِ الحبيب في مجده الخاص ونسبته لله أبيه. وأن نقاسمه مجدًا أي المجد الذي له من قِبل حقوقه الذاتية الناشئة عن كمالاتهِِ الإلهية باعتبار كونه ابن الله الوحيد وذلك «ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمتهِ الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أفسس 7:2)، فهذا لابد أن يتم كل التمام حين يتحقق لنا فعلاً ما قاله يسوع: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدٍ وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني …» (يوحنا 22:17-26) فما أعظم المحبة التي يجب أن تكون في صدور المسيحيين نحو مخلصهم. فإنه بآلامهِ حتى الموت حصل لنا مقامًا كهذا وحولنا ثقة مباركة بأن نكون معه ومثلهُ إلى الأبد.
ومن الأمور الخطيرة التي يجب أن نلاحظها هنا أن الثالوث قد أُعلن لنا المرة الأولى كل الإعلان عند معمودية المسيح فقد ورد في العهد القديم ذكر الابن والروح القدس، غير أن الثالوث أُعلن هنا صريحًا حيث نرى مقام الإنسان الثاني بحسب النعمة. فالإعلان هنا واضح كل الوضوح لأن الأقانيم الثلاثة ظهرت معًا أما الابن فبدا بصورة إنسان والروح القدس بمظهر حمامة وصوت الآب اعترف بيسوع ابناً قد سُرَّ به. فنلاحظ الفرق بين مسئولية الإنسان ومقصد النعمة. فإن مقصد الله قد تقرر قبل خلق العالم، ولكنه عُين في آدم الثاني يسوع المسيح. ففي سفر الأمثال الأصحاح الثامن يُكنى عن يسوع بالحكمة التي كانت عند الله، وهي موضوع بهجته وأن سروره إنما هو بأبناء الناس. غير أن الله خلق الإنسان الأول وجعله في مقام المسئولية قبل إعلان مشورتهِ التي تقررت في الإنسان الثاني أو إتمام العمل المزمع أن يُنشئ نتائج محبته. أما آدم فعجز عن القيام بواجباتهِ ولم ينشأ عن كل الوسائل التي استخدامها الله في معاملاته المتنوعة مع البشر إلا كشف شر الإنسان حتى حضر الإنسان الثاني لكي تتم فيه مقاصد النعمة وبناء على ذلك أُعلنت مسرة الله بالإنسان.
ومع ذلك لم يشاء الإنسان قبول المخلص أو الخضوع للنعمة الظاهرة به، غير أنهُ هو بقى موضوع رضى الله الكاملة بشخصهِ الجليل فأخذ على نفسهِ مقامًا نراه معلنًا في هذه الآية وهي أن يُختم ابن الله والسماء مفتوحة بالروح القدس الذي نزل عليه بهيئة جسمية. غير أنهُ كان وحده في ذلك فقد فعل على الصليب كلما كان لازمًا بالنظر لمسئوليتنا بل فعل أكثر من ذلك فإنه مجدَ الله في محبتهِ وفي جلالهِ وحقهِ وحصل لنا الاشتراك بمقامهِ كإنسان في مجد الله ذلك ليس بالنسبة لحقهِ الخاص كالله أو بالنظر لكونه ابن الله بل بالنظر إلى اتخاذه مقامًا كاملاً كإنسان لنكون مثلهُ في المجد ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين. فهذا هو قصد الله. وقد أُعلن حين أُكمل عمل المسيح. قابل(تيموثاوس الثانية 9:1 مع تيطس 2:1-3).
12 وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13 وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ.(عدد 12، 13).
فنرى هنا أن يسوع حالما تبوأ مقامهُ لدى الله كإنسان ولما ظهر كابن الله في الطبيعة الإنسانية اُقتيد بقوة الروح القدس إلى البرية وهناك باشر الجهاد مع إبليس الذي كان قد غلب على آدم الأول وأبعده عن الله واستعبده وأما يسوع فانتصر عليه بصفته كمجرّب انتصارًا تامًا، ثم تقدم إلى الخدمة التي تعينت له كإنسان بين البشر. وكان من الضرورة أن يجوز تلك النصرة ليحررنا. ولاحظوا أيضًا أن أحواله كانت تختلف كل الاختلاف عن الأحوال التي وُجد عليها آدم الأول؛ فإن آدم الأول كان مُحاطًا ببركات الله وخيراتهِِ حينئذٍ بمثابة شهادة لرضى الله على الإنسان كخليقتهِ. أما يسوع فبالع** فإنهُ كان في القفار شاعرًا بسيادة إبليس على الإنسان وكان متجردًا من كل نعيم وراحة باعتبار أحواله الخارجية ولم تكن له شهادة خارجية على جودة الله وقتئذ فأن كل الأشياء كانت تنافي ذلك.
لا يُخفى أن حوادث تجارب مخلصنا لا تُذكر تفصيلاً في إنجيل مرقس ولا أجوبته للمجرّب فأن الحقيقة الوحيدة المدونة به هي أن السيد قد اجتاز في تلك التجارب (وما تلك إلا حقيقة ثمينة لنا) فقد قدَّم نفسهُ طوعًا حسب مشيئة الله واُقتيد من الروح القدس ليقابل عدو البشر الفاتك. فيا للنعمة العظمى! فإنه أوضح أولاً مركزنا لدى الله. وقد تقلَّده على عاتقه بنفسهِ ثم دخل في ذلك الصدام مع إبليس المتولي أسرنا. أما الحقيقة الثالثة الوارد ذكرها في هذا الإنجيل فهي أن الملائكة أصبحت خادمة وارثي الخلاص. فقد تبين لنا مما تقدم ثلاث شهادات تتعلق بظهور يسوع كإنسان في الجسد وهي مركزنا كأولاد الله والغلبة على الشيطان والملائكة خدامنا.
14 وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ 15 وَيَقُولُ:«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ».16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». 18 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20 فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ. (عدد 14-20).
فبعد أن تبوأ يسوع مكانهُ في العالم شرع بإجراء خدمتهِ ولكن لم يكن ذلك قبلَ إلقاء يوحنا في السجن فحينئذ طفق يكرز بإنجيل الملكوت. أما شهادة يوحنا فكانت خطيرة وضرورية لاجتذاب والتفات القوم إليه ولكن لم يكن لائقًا بهِ أن يؤدي شهادة لمخلصنا بعد تأدية يسوع الشهادة لنفسهِ. فقد قال له المجد: «وأنا لا أقبل شهادة من إنسان» (يوحنا 34:5) مُشيرًا بذلك إلى يوحناالمعمدان وعوضًا عن أن يحتاج إلى شهادةٍ من يوحنا فقد شهد ليوحنا إذ كان هو نفسه الحق متجسدًا لأن كلماته وأعماله كانت شهادة الله في العالم. فقد قال الشعب مرة أية آية تفعل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية فأجاب وقال لهم: «أنا الخبز النازل من السماء» أي أنه هو بذاته الذي انحدر من السماء الآية أو الشهادة الكافية لإجابة سؤالهم أية آية تفعل؟ لا شك أنه صنع آيات كثيرة جدًا فبذلك جعلهم بلا عذر لعدم إيمانهم ولكن الآية العظمى كانت حضور شخص إلهي في العالم وكل من انفتحت عيناهُ وآمن به إيمانًا حقيقيًا هكذا رأهُ.
فكرازة يسوع أنذرت بالملكوت وبينت أن الوقت قد كمل وأن ملكوت الله كان قريبًا وأن الشعب يجب أن يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل. وينبغي أن نميز بين إنجيل الملكوت وإنجيل خلاصنا مع أن يسوع هو مركزهما كليهما غير انهُ يوجد فرق جسيم بين الكرازة بملكوت قد اقترب وبين الفداء الأبدي المُكمل على الصليب. على أنهُ من الممكن الإنذار بهذين الحقين معًا. لا جُرم أن نري الرسول بولس يعظ بالملكوت، ولكنه أعلن أيضًا لا محالة فداء أبديًا قد أُكمل على الصليب، وأما يسوع فأنبأ بموته وأعلن أنهُ: ابن الإنسان الباذل نفسهُ فدية عن كثيرين ولكن لم يكن يستطيع أن ينادي بفداء كامل أثناء حياته. فكان يجب أن البشر يقبلونهُ ولا يميتونه. ومن ثمَّ قصر شهادتهُ على ملكوت الله الآخذ بالاقتراب.
فقد تأخر هذا الملكوت عن القدوم بقوته العامة لأن يسوع قد رُفض انظر (رؤيا 17:11)، وذلك الإبطاء يدوم كل الزمان الذي يجلس فيه المسيح عن يمين الله إلى أن ينهض من عرش أبيهِ للدينونة. فقد قال له الآب أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك (مزمور 1:110) على أن ملكوت الله كان قد أتى سرا مدلولاً عليه بما ورد في إنجيل مَتَّى (أصحاح13)، وذلك يستمر في خلال الزمان الذي يجلس فيه يسوع عن يمين الله. ولكن حين تأتي الساعة المعينة من الله ينهض السيد ويقيم ملكوته وبقوته الخاصة يدين الأحياء فيتوطد السلام والسعادة على الأرض. أما نحن الذين قبلناه وهو مرفوض من العالم فسنذهب لنلاقيه في الهواء ونكون دائمًا معهُ. ثم نأتي في موكبه بالمجد لما يظهر لدى العالم وسنملك معهُ. والأفضل من ذلك جميعهُ أننا نكون مثلهُ ونجلس معه في المواطن السماوية في بيت أبينا.
فهذه الحقائق والحوادث المدونة في كلمة الله لا تظهر ظهورًا جليًا إلا بعد صعود المخلص وبعد توطيد غاية الله العظمى على دعائم موت يسوع وإتمامها. أما هنا فالرب لا يصرح إلا بدنو ذلك الملكوت المطلوب من البشر قبولهُ. فكان يُعَلم في كل المجامع فقد وُجد البعض الذين فازوا ليس بسماع كلماته فقط أو آمنوا بما عَلمه، بل تبعوه والتصقوا به أيضًا. ذلك من الأمور الخطيرة جدًا الجديرة بالاعتبار والملاحظة فأن كثيرين في أيامنا الحاضرة يعترفون بأنهم قبلوا الإنجيل ولكن ما أقل الذين يتبعون المخلص في سبيل الإيمان، وفي تلك الوداعة والطاعة اللتين ميزنا سلوك المخلص في هذا العالم. فلنبذل الجهد بأتباعهِ. ليُصيرهم صيادي الناس فلنطلب نحن الآخرين ليتمتعوا هم أيضًا بالغبطة المجيدة الباقية التي يمنحها الروح القدس. فربما لا نكون رسلاً كأولئك، ولكن كل من امتلأ من المسيح يؤدي شهادة لهُ. فأن من فضلة القلب يتكلم الفم ولابد أن تجري انهار ماء. الحياة من جوف الناهلين من المسيح.
21 ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23 وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ 24 قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَكَيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَمَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!» 25 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» 26 فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» 28 فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. (عدد 21-28).
أن إنجيل مرقس لا يمثْل شخص عمانوئيل ونعمة خدمتهِ كإنجيل مَتَّى بل يبين خدمتهُ بيانًا سريعًا بالنظر لنسبتها للجنس البشري. على أن تلك الخدمة هي بالضرورة، غير أن أسلوب انتشارها ووضوحها يختلف في الإنجيل الأول عن الثاني. فكلمتهُ وأعمالهُ تشهدان معًا للسلطان الذي علَّم بهِ الشعب. فبينما كان يتكلّم انذهل القوم في المجمع لأن تعليمهُ لم يكن كتعليم الكتبة الذين استندوا على آراء البشر. أما يسوع فعلَّم الحق كإنسان يعرفهُ كل المعرفة ويستطيع أن يشرحهُ من أُسسهِ الأصلية. حتى أن الأرواح الشريرة ارتاعت من حضورهِ وطلبت أن تنجو من الهلاك ولكنها أُرغمت على مغادرة أولئك المساكين الذين أصبحوا فريسةً لسلطتها، فمن ثمَّ قال الشعب ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ فتلك شهادة على أن الله قد تداخل لتحرير الإنسان وتبليغ حقهِ الكامل لهُ. فالنعمة والحق قد أتيا بيسوع المسيح.
29 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، 30 وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. 31 فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكًا بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 32 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. 33 وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. 34 فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ.35 وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ، 36 فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. 37 وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». 38 فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ». 39 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. (عدد 29-39).
فذاع صيتهُ في كل الجليل فترك المجمع ودخل بيت سمعان وأندراوس كانت لبطرس زوجة. وكانت أمها مريضة بالحُمَّى فأخذ الرب بيدها ففارقتها الحُمَّى وطفقت المرأة تخدمهم في صحة كاملة. وحالما انقضى السبت اجتمعت كل المدينة على باب البيت فشفى يسوع المرضى واخرج الشياطين فاعترفت الأبالسة بهِ على أن البشر لم يفعلوا ذلك. ومع ذلك ظلَّ خادمًا لله ونهض قبل شروق الشمس ليذهب إلى مكان منفرد للصلاة. فطلبهُ بطرس ولما وجدهُ قال لهُ أن الجميع يطلبونك. أما يسوع خادم الله الأمين الدائم فلا يطلب كثرة العدد ولا الشهرة لنفسهِ، بل ذهب إلى مكان آخر ليعظ ويحرّرمن نير إبليس.
ومن الأمور المهمَّة الداعية إلى التأمُّل أن معجزات الرب ليست فقط من البينات والأدلَّة القاطعة على قدرتهِ بل هي أيضًا علامة الجودة العاملة في القدرة الإلهية. فهذا هو الأمر الذي يخوّل معجزات المسيح تلك الصفة الإلهية الحقيقية. فأعمالهُ كلها إنما هي ثمر محبتهِ وتشهد لإله المحبة على الأرض ولا يستثنى من ذلك في الظاهر إلا حادثة واحدة على أنها ليست إلا دليلاً على الحق الذي نحن في صددهِ وهي لعن شجرة التين إنما ذلك كناية عن بني إسرائيل وبمعنى أوسع عن الطبيعة البشرية التي مع عناية الله بها لم تأتِ بثمر بل أتت بأوراق فقط أعني الرياء. فمن ثمَّ قُضي عليها ودُينت ولن تأتي بثمر بعد. فالكرّام نقب حولها وسمَّدها، ولكن ذهب ذلك عبثًا فتركها الله ولا يعود ينتظر منها ثمرًا؛ فينبغي للإنسان أن يُولد ثانيةً ويُخلَق جديدًا بيسوع المسيح لكي يأتي بثمر لله.
40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. (عدد 40-45).
فلنا دليل جميل في هذه الآيات على محبة يسوع البينة في أعمالهِ. فإن أبرص أتى إليه مقتنعًا كل الاقتناع بقدرته من نظرهِ المعجزات التي اجتز بها أو سماعه عن أعمالهِ العجيبة ولكنهُ لم يكن متأكدًا الفوز برضاهُ للشفاء فقال لهُ: إذا أردت تقدر فلم يكتفِ الرب بإبداء أرادتهِ لبرئهِ بل حقق ذلك بالعمل فلمسهُ. ولا يُخفى أن البرص مرض هائل يُمثل رداءة الخطية وكان يُفرز المصاب به عن المحلة ويُحسب نجسًا. حتى أن مَنْ لمسهُ كان يُحسب كذلك ويُفرز أيضًا، لأنهُ كان يُصاب بالعدوى ولم تكن العلاجات تنجح بشفائهِ بل أن يهوه وحدهُ كان قادرًا على ذلك. فحين كان يمُّن عليه القدير بالشفاء يُصرح الكاهن بطهارتهِ وبعد تقديم الذبائح المفروضة يعود للاشتراك بالعبادة الإلهية. فأدرك السيد ذلك السقيم بقوتهِ الإلهية ومحبتهِ وقال له: أُريد فاطهر فبدت بهذه الحادثة إرادة الله وقدرته فاستخدامها لشفاء ذلك الإنسان البائس المنفي من جماعة الرب. ولكن يوجد أمر آخر فضلاً عما ذُكر. فأن يسوع لمسه ُذلك المصاب ولم يخشَ العدوى إذ لا سلطة لها عليهِ وقد دنا من ذلك الرَّجُل ِالنجس حتى لمسهُ فهو إنسان حقيقي بين البشر وهو الله قد ظهر في الجسد أيضًا. الله في الإنسان ومحبة متجسدة وقوة تستطيع إجراء كل الوسائل اللازمة لإنقاذ الإنسان من نتائج سلطة إبليس. فقد ظهرت فيهِ على الأرض طهارة لا تتدنس مصحوبة بمحبة فائقة هو الله وإنسان معًا فلذلك الشخص الواحد يشتغل بخدمة الإنسان وإعطائهِ البركة. فشفي الأبرص في الحال وتلاشى البرص بلمسة منهُ.
ولكن وإن كان الله قد ظهر بأعمال قدرتهِ ومحبتهِ لم يَكُف عن الخدمة بعدما تقلدها. فصرف الأبرص المُطهَّر قائلاً: انظر لا تقل لأحد بل أذهب وأرِ نفسك للكاهن وقرب القربان الذي أمر به موسى. ثم يمكننا أن نلاحظ أمرًا آخر في هذه الحادثة وهي أن السيد تحرك بالشفقة لما رأى الأبرص. فما ذلك إلا لأن الله بمحبتهِ تأثر ورثى بقلبهِ الحالة التي وُجِدَ عليها الإنسان الساقط تلك حقيقة كثيرًا ما نراها في الأناجيل. أما ذلك الأبرص المُطَهر فأذاع اسم يسوع في تلك الكورة المحيطة فإن الشهادة بقوة الله المرافقة شعبهُ لابد أن تؤثر بأفكار البشر وتحملهم على السؤال عن الشخص العجيب الذي قدر أن يُجري عملاً كهذا. أما يسوع فلا يطلب مجدًا من إنسانًا بل إنما أتى ليتمم إرادة الآب والعمل الذي أعطاهُ ليعمل. فاحتاطت به الجموع حتى لم يستطع أن يدخل المدينة حيث كان القوم مستعدين أن يحتشدوا حولهُ ليروهُ.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:14 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح الثاني
 
1 ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضًا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. 2 وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ. 3 وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجًا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. 4 وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. 5 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». 6 وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: 7 «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟» 8 فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ 9 أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ 10 وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا». قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: 11 «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!». 12 فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ:«مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!». (عدد 1-12).
ثم بعد بضعة أيام حين كان قد قلَّ انتظار الجموع دخل المدينة أيضًا، فشاع حالاً انهُ في البيت فاجتمع كثيرون حتى ضاق المكان بالحاضرين وكثر الزحام على الباب أيضًا، فكان يسوع يكرز لهم بالكلمة؛ لأن هذه الخدمة هي غايتهُ الأولى. فهو الكلمة وهو الحق وهو الشخص الذي أنذرت كلمتهُ بأنهُ يفتقر إليه الإنسان. وقد تحققت تلك الكلمة بأعمالهِ وعَرفَ الشعب أن له السلطان القادر أن ينقذهُ من كل شر.
فاحضروا له إنسانًا مفلوجًا يحملهُ أربعة رجال، ولكن بما أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى يسوع نظرًا لازدحام الجموع كشفوا السقف ودلوا المفلوج إلى حيث كان يسوع. فهذا برهان صريح على أن إيمانهم مبني على شعور عميق بحاجتهم إلى يسوع وثقتهم به وبمحبتهِ وسلطانهِ، فلولا رغبتهم الحارة بشفاء السقيم وثقتهم التامة بقدرتهِ ومحبتهِ لخار عزمهم من كثرة الزحام، ولربما قالوا: سنعود مرة أخرى فنلقاهُ بدون مانع. غير أن المصاعب لا تقف في سبيل الإيمان فإن بواعثهُ إنما هي الحاجة إلى يسوع المخلص والشعور بالشفاء وأن لا أحد يستطيع الشفاء سواهُ وان محبتهُ تتكفل بأنه ينظر إلينا في حال الرزء والبلية. وما ذلك إلا من أعمال الروح القدس المُعلن بيسوع لأبصارنا. فهو يُنشئ فينا شعورًا بالشقاء يحرضنا على طلبهِ تحريضًا لا تصدنا عنه الموانع؛ لأننا نعلم أن يسوع وحدهُ قادر على إبرائنا وأن محبته كافية للقيام بذلك لا أننا قد شُفينا، بل لنُجذَب إليه واثقين بأنه لابد أن يفعل ذلك. فإذا كنا قد أتينا إليه فقد انشأ الإيمان في النفس حاجة وثقة بأن يسوع يُلبي طلبنا ويسد حاجتنا، فيسوع لا يتباطأ قط عن إجابة بغيتنا. على أنه ربما سمح بحدوث المصاعب امتحانًا لإيماننا غير أن الإيمان الغير المنفكّ عن المواظبة والشعور بالحاجة، أما أصل ذلك كله فإنما هو عمل الروح القدس في قلوبنا.
فانتهز يسوع الفرصة من مشاهدة ذلك المفلوج السيئ الحظ للدلالة على أصل كل الشرور الحقيقي، وما هو إلا الخطية فقد أتى لوجود الخطية في العالم، وما هي غايتهُ إلا أن يغفرها. نعم أن الحاجة تدعوا إلى كفارة كاملة عن الخطية؛ لكي يكون أساس راسخ للمغفرة للبشر طبقًا لمطلوب العدل الإلهي. غير أن الله العارف بكل شيء يستطيع أن يمنح الصفح بواسطة ابن الإنسان مدة حياته بالطريقة التي يشترك بها كل المؤمنين الآن بواسطة الإنجيل، وكذلك أيضًا من جهة سياسته لإسرائيل أو للأفراد إذ كان يستطيع أن يعفو عن الأفراد وعن الأمة كلها أو يتركهم جميعًا تحت غوائل القصاص. فالان كان ليسوع السيد الحق والسلطان على غفران الخطايا على الأرض وقد أعطى بينة على ذلك. كما يُقال عنه: انه هو الذي يغفر كل خطايا إسرائيل ويشفي كل أمراضهم (مزمور 3:103).
فحاجة إسرائيل الكبرى إنما هي المغفرة؛ لأنه بحسب حكم الله نفسه تستحيل إعادة إسرائيل إلى بركة الله ورضاهُ إن لم ينل هذه المغفرة، فقال يسوع: خطاياك مغفورة، فحنق الكتبة من هذا القول حاسبين انهُ من التجديف غير أن يهوه المشار إليه في المزمور كان حاضرًا هنالك في شخص ابن الإنسان وأعطى برهانًا على أن هذا الحق مختص بهِ بإتمام ما هو مذكور في هذا المزمور نفسه. الذي يشفي كل أمراضك. ثم قال: ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا قال للمفلوج: لك أقول: قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك. فنهض الرجل وحمل فراشهُ وانطلق. فالمغفرة والسلطان على الشفاء أتيا على الأرض بشخص ابن الإنسان ذاك الذي وافى عالمنا بسلطانه الإلهي وحقه في حال الذل والاتضاع؛ ليقطر من بلسم محبتهِ وقدرتهِ على أرزاء الإنسان وشقاء نفسه مقدمًا دليلاً على ذلك بتحريره الجسد من الآلام الطارئة عليه بالخطية، فالله كان حاضرًا هنالك بمحبته وسلطانهِ على الشفاء، غير أن الحق الخطير إنما هو حلول الغفران على الأرض. فهذا هو الحق الأول العظيم. فان ما فاه به يسوع ينادى به الآن في الإنجيل. تلك هي الوسيلة لاقتران عدل الله مع غفرانهِ المجاني. قد ظهر الصفح الدائم ظهورًا جليًا تلقاء البشر بكلمات يسوع وأُعلن العفو عن الخطية مبنيًا على عمل المخلص. فإذا كان هذا هو روح الإنجيل وعمل الفادي، فلابد أن تأتي لكي يدعو الخطاة ويكون صديقهم ليحصلوا على الثقة به ويؤمنوا بنعمتهِ. ولَيعلم العالم صفات المسيح الحقيقية.
13 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِ. وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ الْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. 14 وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. 15 وَفِيمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِهِ كَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَتَّكِئُونَ مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرِينَ وَتَبِعُوهُ. 16 وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» 17 فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ:«لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ». (عدد 13-17).
ثم أن الحوادث التابعة في هذا الإنجيل تحملنا على فهم خدمة يسوع وأعماله فهمًا صريحًا، فإنهُ دعا مَتَّى الذي كان جالسًا عند مكان الجباية. فذلك المكان كان مكروهًا عند اليهود ليس فقط لأنهم كانوا ملتزمين أن يؤدوه ضدًا لارادتهم، بل لأنهُ كان دليلاً على عبوديتهم للأمم. فإنهم كانوا قد خسروا حقوقهم باعتبار كونهم شعب الله الحَّر، فبناء على ذلك كانوا يحنقون كل الحنق ممن يتقلدون هذه الوظيفة من أبناء بلادهم تحت سيادة الحكومة الرومانية. وكان الإنسان المتولي هذه الخطة ممقوتًا ومحسوبًا من الخائنين بالديانة والأمة، فعلى ذلك كانت جباة المكوس فئة مزدراة ومبغُضة. فالآن دعا يسوع مَتَّى وكان عشارون آخرون كثيرون جالسين على المائدة مع يسوع وتلاميذه
فأخذ الكتبة والفريسيون يتباحثون كيف يمكن لإنسان بار أن يأكل مع عشارين وخطاة، فسمع يسوع ذلك وأجابهم بحكمة إلهية. فبساطة هذا الجواب تضارع قوته: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة. فالعامل هنا هو النعمة وعمل يسوع هنا يباين الناموس كل المباينة؛ لأن الناموس يطلب من الإنسان عدلاً إنسانيًا، أما يسوع والإنجيل فيبشران بنعمة إلهية تُعلن بر الله للإنسان وما تلك إلا عطية مجانية. فالبر الإلهي كان مزمعًا أن يُعلن كل الإعلان حين إتمام عمل المسيح على الصليب. ذلك حق خطير وثمين جدًا، فيسوع المخلص أتى ليُفتش على الخطاة لا على القوم الأبرار حتى لو وُجدُ أشخاص كهؤلاء لما كانت حاجة للتفتيش عليهم، بل وافى بنعمتهِ العظيمة وجودتهِ الكاملة ليطلب الأثمة فلا يصرفهم عنه، بل يُنَشدهم فيستطيع أن يجلس ويأكل معهم ولا يمس ذلك قداسته الكاملة فهذا هو إعلان الله لمحبتهِ في وسط الخطاة ليُريح قلوب البشر ويجتذبها إليه وينشئ بها ثقة الله ويربط بذاتهِ كل قوى النفس بربطات المحبة وبرسم عليها صورته الطاهرة. فإن الصلاح الإلهي في شخص المسيح قد حل في وسط الشر لإنشاء هذه الثقة وقد أشترك مع الإنسان الساقط في شقائه وتعاستهِ ولم يطرد الأثيم لإثمهِ، بل دعاه للإتيان إليه لكي ينال المغفرة.
لا جرم أن خراب الإنسان بدأ حين فقد هذه الثقة بالله، فإن إبليس كان قد نجح بإقناع حواء بأن الله لم يسمح لها بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر؛ لأنهُ علم إذا أكلَ منها الإنسان كان مثل الله يعرف الخير والشر، وأن الله نهاهُ عن مسّ الشجرة بسبب الغيرة، وأنهُ إذا كان لا يشاء تعالى أن نكون سعداء وجب علينا أن نُصَير أنفسنا في حال السعادة. فهذا ما كانت حواء تطلبهُ وما يصبوا إليه كل الجنس البشري، أي أن يفعلوا إرادتهم الذاتية، فمن ثمَّ سقط الإنسان ولا يزال مُقيمًا في ملء هذا الشقاء الذي هو ثمر الخطية متوقعًا حلول قضاء الله على الخطية نفسها. أما الله فقد أتى بمحبته الطالبة الخطاة والملائمة لحاجتهم والغير المفتقرة لبر الإنسان والمقدمة له خلاصًا ونعمة يحملانه على القدوم إلى الله متبرَّرًا بواسطة عمل المسيح وكفارته. فقد وافى بالمحبة للقوم الأثمة ليصالحهم مع نفسهِ، وبدلاً من أن يُقاصِّهم لأجل خطاياهم انتهز الفرصة لإعلان نفسه ذبيحة لأزالتها ومحوها.
فيجب أن نلاحظ أن المسيح في مدة حياته كان يُعلن محبة الله ولطفهُ للإنسان، وما النتيجة من ذلك سرى رفضهِ، وأما في موتهِ فقام كإنسان في مقام ذبيحة لدى الله الذي جعله خطية لأجلنا؛ لكي نصير نحن برَّ الله فيه وبذلك العمل وضع أساسًا راسخًا لبركتنا، فإنهُ يستطيع أن يُباركنا الآن في شخص المحبوب باعتبار قيمة عملهِ وفضل شخصهِ وعظمتهِ. فنرى إذًا شيئين أولهما: إظهار المحبة الكاملة بخدمته نحو البشر، وأما الثاني: فهو تقديم كفارةً أمام الله. وفي ذلك كله نرى الله عاملاً لأجل الإنسان وليس طالبًا شيئًا منه إلا أن يُقبل فقط. بخلاف ما كان يعمل في مدة نظام الناموس، فإن الناموس كان القانون الكامل الواجب أن يسير به الإنسان بحسب كونهِ ابن آدم وقد طلب منه أن يقوم بحفظهِ ولعن كل مَنْ لم يفِ مطالبهُ وأيد نسبة الإنسان إلى الله بالسلطة الإلهية الذي أعطاه قانونًا كاملاً للسلوك وفقًا لتلك النسبة. فذلك القانون مما يُسهل على الإنسان الساقط نسيانهُ والتعدي عليه. فلم يُعطِ حياةً ولا قوةً ولا موضوعًا يجذب القلوب ويسود عليها، بل وطد نسبة الإنسان لإلههِ واخوتهِ بني البشر ولعن كل من لم يحفظهُ وكل الذين كانوا تحت سلطتهِ.
لا جُرم أن الجسد لا يخضع ولا يستطيع أن يخضع لناموس الله، أما النعمة فتؤيد سلطة الناموس واللعنة نفسها؛ لأن المسيح فادينا العزيز قد حملها. فإن المغفرة تباين اللعنة كل المباينة، كما أن وفاء الدين يختلف عن طلب الدراهم. على أن من العدل طلب أداء الدَين، ولكن إن كان المديون عاجزًا كل العجز عن الإيفاء ولا شيء عنده فهو في بؤس وضنك فلو أدى ما عليه لفاز بالحرية والعتق فقط، أما المسيح فقد فعل أكثر من ذلك؛ لأنهُ لم يفِ الدَين فقط، بل أعطاهً ثروة جسيمة في حضرة الله.
18 وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ:«لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» 19 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. 20 وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. 21 لَيْسَ أَحَدٌ يَخِيطُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْمِلْءُ الْجَدِيدُ يَأْخُذُ مِنَ الْعَتِيقِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. 22 وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق جَدِيدَةٍ». (عدد 18-22).
هذا الفصل مما يوضح الفرق العظيم بين النظامين العتيق والجديد وأن لكل منهما ما يمتاز ويتصف به. فان تلاميذ يوحنا والفريسيين كانوا يصومون، فذكر الرب علة امتناع تلاميذه عن ذلك؛ لأن العريس كان حاضرًا فلم يكن وقت الصيام، ولكن سيأتي زمان حين يُرفَع العريس عنهم، فحينئذ يصومون لما يتحول فرح حضورهِ إلى حزن بغيابهِ وبالحاجة الناشئة في قلوبهم من ذلك الغياب. ثم يوجد شيء آخر وهو تعذر مزج النظامين معًا، فإن الخمر الجديدة أعني بها الحق وقوة الدين المسيحي الروحية لا يمكن وضعها في زقاق عتيقة، أي في فرائض الديانة اليهودية وطقوسها، فإذا فعل ذلك أتتلفت الخمر الجديدة الزقاق ففسد الاثنان معًا فالخمر تنصب والزقاق تتلف، وكذلك لا يلائم النسيج الجديد الثوب القديم؛ لأن الثوب يتمزق فيصير الخرق أردأ. فبالحقيقة أنهُ يتعذر ضمُّ قوة الدين المسيحي الروحية مع الطقوس الجسدية التي تصبو إليها الطبيعة البشرية؛ لأنهُ يتألف منهما ديانة بدون حياة جديدة وبدون أن يُمسَّ الضمير، كلاً بل يجب وضع الخمر الجديدة في زقاق جديدة ذلك أمر مهم علينا أن نذكرهُ. فإن النظام الأول قد تغير كل التغيير وأتى بدله نظام جديد، فقد تحول السابق وأُبطل أصبحت الأحوال تختلف عن سابقتها فلا يمكن أن يجتمعا معًا ويستحيل على الطقوس الجسدية الاتفاق مع قوة الروح القدس. فتأملوا بذلك يا أيها المسيحيون. فقد حاولت الديانة المسيحية أن تزين وتبهرج نفسها بالطقوس والاحتفالات وطالما فعلت ذلك في مظاهر وأساليب وثنيَّة، فماذا كانت النتيجة؟ أنها أصبحت بالحقيقة وثنية عندما تزينت بأزياء العالم القائم بتلك الصُوَر الخارجية حتى كادت روحيَّتها تُفقد كل الفقد.
23 وَاجْتَازَ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. 24 فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ:«انْظُرْ! لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي السَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟» 25 فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 26 كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَأَثَارَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ، وَأَعْطَى الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضًا». 27 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ:«السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. 28 إِذًا ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا».(عدد 23-27).
لا يُخفى أنهُ كانت للسبت أهمية عظيمة جدًا تحت نظام الناموس، وكان قد تعين من البداءة تذكارًا لراحة الله بعد تكميل عمل الخليقة، ثم بعد فداء بني إسرائيل من عبودية مصر جعلهُ الله علامة عهده بينهُ وبينهم، فانهُ كان من جملة مقاصدهِ بالنظام الأول لمن يمتحن إسرائيل وبالتبعية الإنسان مطلقًا ليرى إذًا كان وهو حاصل على قانون كامل ووسائط ناموسية تامة ومتمتع بحضرة الله في هيكلهِ يستطيع أن يخدمهُ ويكمل كل بر كابن آدم في الجسد. فالسبت لم يكن يومًا سابعًا الذي كفَّ بهِ الله عن الخليقة بعد إنجاز عمل الإبداع واستراح من عمالهِ. فالمسألة هي فيما إذا كان يستطيع أن يساهم خالقهُ بتلك الراحة؟ فإن بني إسرائيل صنعوا العجل الذهبي قبل نزول موسى من الجبل فصبر الله عليهم، لا بل على الإنسان وتمهل عليه إلى أن رُفض المسيح، فعند ذلك تبرهن عجز الإنسان عن الثبوت في الخير وعن القيام بما يُطلَب منهُ بحسب العهد القديم، ومن ثمَّ كان يتعذر ابرام عهد بين الله والإنسان حسب الجسد ينتج بركة ثابتة لهُ؛ لأنهُ يستحيل عليهِ التمتع براحة الله على مبدأ ناموسي، وفضلاً عن ذلك كان سبت الخليقة الأولى لأجل الإنسان، ومن ثمَّ المسيح الذي هو ابن الإنسان الذي تعينَّت له جميع حقوق آدم الأول التي أعطاهُ الله إياها قبل سقوطهِ صار ربَّ السبت الذي أُعطي من قِبل الله لراحة الإنسان، فلما عجز عن الد*** إلى الراحة بواسطة أعمالهِ قام الإنسان الثاني الذي هو بالحقيقة الرب من السماء وأخذ بعمل بحسب مبدأ آخر أي مبدأ النعمة فاضطرَّ إلى العمل في كل الأيام ليسدَّ حاجات البشر وكان لهُ حتى بذلك لكونهِ ربَّ السبت، فيشار إلى ذلك أولاً بزمان داود مسيح الرب، فانهُ لما رُفض كان كل شيء عامَّا ودنسًا فكذلك لما رُفض المسيح الدليل الأخير المعطى للإنسان حسب الجسد لم يكن شيء طاهرًا للإنسان فان ختم العهد الأول أي السبت قد أُلغيَ وفقد قوتهُ. ثم حين غادر المسيح إلى حين مقامهُ في إسرائيل كمسيا الموعود بهِ اتخذ حقوقه كابن الإنسان على دائرة أوسع جدًا من نسل داود ابن إبراهيم، كما نرى ذلك كثيرًا في الأناجيل (لوقا 21:9-22) فهو إذًا ربًّ السبت المُعطى للإنسان فمن ثمَّ تلاشت علامة العهد القديم بواسطة خطية الإنسان ورفضهِ المسيح.
فقيامة المسيح كانت بداءة الخليقة الجديدة ودعامة العهد الجديد المؤسس على دمهِ، وهي علامة راحة الله لأجلنا فإنهُ تعالى قد اكتفى وتمجد بموت يسوع وأقامهُ من بين الأموات فوجد مقرَّا لمحبته وبرهِ وأصبحنا نحن موضوع محبتهِ وبرَّ الله بالمسيح. فتعين لنا يوم آخر لراحتنا أي اليوم الأول الذي تعلق ليس بالخليقة الأولى التي تشوشت بالخطية، بل بالخليقة الجديدة التي بدأت بقيامة المسيح.
إذًا يوم الرب من عطايا الله الثمينة للإنسان. فالمسيحي الحقيقي يتمتع بهِ بملء القلب والنفس وإذا كان أمينًا وَجد نفسهُ بالروح ليتمتع بالله ويُسرَّ بالراحة من الأشغال العالمية ليعبد الله أباهُ ويفوز بالاشتراك روحيًا مع سيدهِ. فإذا تكلم المسيحي عن حرَّيتهِ واستخدامها للإزراء بيوم الرب وإهمال حفظهِ والانهماك في أعمالهِ الدينونة كان من الأدلة السيئة على صدق مسيحيتهِ، فانهُ وان كان حرَّ فإنما هو حرَّ من العالم والناموس ليخدم الرب. فكم من الخير يستطيع الإنسان أن يفعل في يوم الرب إذا أحسن استعمالهُ وفقًا لإرادة مولاهُ وهذا مبدأ ثالث يشتمل عليه الأصحاح الثالث من هذا الإنجيل.
فائدة الوصية الرابعة التي أوجبت حفظ السبت على إسرائيل هي من ضمن العشر الوصايا، ولكنها تختلف عما سواها في بعض الأوجه بحيث أنها تتعلق بأمر مفروض على الإنسان فرضًا من قِبل مشيئة الله وليس قيمة أو صفة أدبية في الأمر نفسه، ومن ثمَّ يمكن لله أن يبطله إذا شاء إما وقتيًا أو نهائيًا. ولا نقدر أن نقول هذا عن الوصايا الأخرى، ولم يكن من اللياقة بالرب أن يقول: انهُ ربَّ الوصية الأولى مثلاً.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:17 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع

 الأصحاح الرابع 


1 وَابْتَدَأَ أَيْضًا يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ.2 فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «اسْمَعُوا! هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4 وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. 5 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6 وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ»10 وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، 12 لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». 13 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ 14 اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. 15 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. 16 وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، 17 وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. 18 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ، 19 وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. 20 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً». (عدد 1-20).
الرب نطق بمثل الزارع وهو جالس في السفينة عند جانب البحيرة، فذلك الزارع ذهب ليزرع زرعًا إذًا قبلهُ القلب أتى بفعل النعمة بالثمر الذي يطلبهُ الله . فالثمر لم يوجد في الكرم الإسرائيلي حيث كان قد أُمتحن الإنسان حين كان في الجسد مرتبطًا بالعهد القديم، فإن الناموس كُتب على ألواح من حجارة؛ فلهذا السبب لعن السيد شجرة التين التي لم تأتِ بأثمار، بل أنبتت ورقًا فقط. على أنهُ نقب حولها وسمدها غير أن ذلك كان عبثًا فمن ثمَّ وجب قطعها. فما أرهب هذا الحق المقدس!. لا جُرم أن النعمة ترفعنا فوق الخطية، غير أن الإنسان كان قد هلك بالنظر لمسئوليتهُ لدى الله. أما السيد فبدأ يُعَلّم الجموع بأمثال قائلاً: هوذا الزارع قد خرج ليزرع. فكما قلنا: هو لا يطلب ثمرًا بعد من الإنسان على الأرض ولا من شعبهِ القديم، بل يزرع ما يجب أن يأتي بثمر.
فحين كان الزارع يزرع سقط بعض على الطريق وبعض على الأماكن المُحجرة وبعض في وسط الشوك وبعض على الأرض الجيدة. فتلك ليست مسألة تتعلق بالتعليم، بل بالنتائج التابعة زرع كلمة الملكوت وهي مسألة حقائق خارجية. فثلاثة أجزاء من الزرع لم تأتِ بثمر. ففي الحالة الأولى، حين تُزرع الكلمة في القلب تستمر على السطح الخارجي ولا تخرق إلى الداخل فيخطفها الشيطان بسهولةٍ فلا يكون ثمر. وفي الحالة الثانية، تُقبل الكلمة بفرح ويسرُّ السامعون بالإصغاء لصوت نعمة الملكوت وغفران الخطايا، ولكن حالما يلمُّ بهم من جرائها ضيق أو اضطهاد يتركونها وينبذونها عنهم. فإن السامع قد قبلها بفرح، ولكن لا يلبث حتى يُغادرها حين حلول الضيق؛ لأن الضمير لم يُؤتَ بهِ إلى حضرة الله ولم يمسهُ انزعاج واضطراب خوفًا من دينونة الله. فكلمة الله إنما تتأصل في نفسهُ يُعلن للقلب فيرى الإنسان نفسه في حضرتهِ شاعرًا بوجوده لدى فاحص القلوب. ثم يتبع ذلك القضاء على الذات فتتبدد الظلمة وتضمحل ويشرق نور الله في القلب. فحين يستفيق الضمير ويتدرب على المنوال المُشار إليهِ يأتي الإنجيل بالفرح والسلام الدائمين ويُلبي الله حاجة النفس، فمهما كانت نعمة الله ومحبتهُ عند بداءة إعلانهما لا ينشئان فرحًا؛ لأنهما يزعجان الضمير. فيخترق النور القلب؛ لأن الله نور. ولكن المحبة تُنشئ ثقة؛ لأن الله محبة فينجذب القلب ويتكل على المخلص نظير المرأة الخاطئة التي غسلت قدميه بدموعها، ولكن الضمير لا يكون قد طُهر بعد فلا يكون له فرح. فإذا كانت بشرى الغفران تُنشئ فرحًا حالاً يُخشى أن الضمير لم يستيقظ بعد. فالفهم والتمييز وربما العواطف الطبيعية تكون قد فهمت أنباء المحبة والغفران الجميلة الواردة في الإنجيل، غير أن العمل إنما هو على السطح الخارجي ولا عمق له فيزول ويتلاشى عند الامتحان. والقسم الأخر من الزرع وَقع بين الشوك فنبت الشوك وخنقهُ فلم يأتِ بثمر. وأخيرًا أتى الزرع الساقط على الأرض الجيدة بأثمار تتفاوت مقاديرها فغاية هذا المَثل لا ليُبين كيفية حدوث ذلك، بل ليتكلم فقط عن النتائج الظاهرة. فلا ريب في أن هذا هو فعل النعمة، ولكن لم يذكر شيء إلا الحقيقة على أن نرى فعل النعمة في هذا النوع الأخير، فإنهُ ينمو ويأتي بثمر ويظل ناميًا. فمن قَبلَ فعل النعمة في قلبهِ أصبح صالحًا لإبلاغها إلى الآخرين أيضًا. فربما ليس لهُ موهبة الكرازة غير أنهُ يحب الحق ويحب النفوس ومجد المخلص، فلابد أن يُضيء النور الذي أشرق قلبهُ على مَنْ حولهُ وهو أيضًا يزرع بحسب قوتهِ وهو مُكلف في أن يفعل ذلك. فالأمانة والخيانة في هذا الأمر ستعلنان كما سائر الأمور،فإن الله يُرسل النور إلى القلب لينبعث إلى الآخرين لا لكي يخفي ويستر. فإذا كنا أُمناء في إبلاغ ما نملكهُ إلى الآخرين كثرت عطايا الله لنا ازدادت. وإذا وُجدت في قلوبنا المحبة لابد من ظهورها وإعلانها، فالحق والمحبة قد أتيا كلاهما بيسوع، فما لم يكن القلب ملآن من المسيح لا يستطيع أن يُعلن الحق وإذا كان مُفعمًا من الأمور الدنيوية ومحبة الذات تعذَّر إعلان المسيح، ولكن متى حلَّ المسيح وحقهُ ومحبتهُ في القلب نستطيع أن نُظهرهُ للآخرين للبركة وننال نحن أنفسنا فيض البركة وتزداد عطايا الله لنا وتتمتع النفس بالحرية والسرور. فإذا لم يستفد الآخرون من نورنا نزع ذلك النور منا وتحوَّل إلى ظلام.
نرى أيضًا أن خدمة الرب لليهود كأُمة على وجه العموم كانت قد انقضت، فإنه أخذ يوجه كلامهُ خصوصًا للذين كانوا قد قبلوا، إذ قال لهم: قد أُعطي لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله وأما الذين هم خارج فبالأمثال يكون كل شيء، لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم؛ لأنهم تحت قضاء الله ودينونتهِ. فلا يعني الرب بهذا القول عدم إمكانية إيمان الأفراد ونوالهم المغفرة، بل أن الله ترك الأمة ونزع البركات وأصبحت عرضة للدينونة لأنها رفضت شهادة يسوع، فوبخ التلاميذ؛ لأنهم هم لم يفهموا أيضًا هذا المَثل، ولكنهُ فسرهُ لهم بنعمتهِ.
21 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ 22 لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُومًا إِلاَّ لِيُعْلَنَ. 23 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» 24 وَقَالَ لَهُمُ:«انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. 25 لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ». (عدد 21-25).
يعود الرب في هذا الفصل يُنبه التلاميذ على الإصغاء إلى كلمته وتخصيصها لأنفسهم وبعد ذلك تبليغها للآخرين؛ لأن الله إنما يمنحنا نوره لكي يُنيرنا قبل كل شيء ثم يستخدمنا لإنارة الآخرين وليس من خواص النور ان يُخفى. هل يؤتى بسراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير، أليس ليوضع على المنارة؟ كان المسيح نفسهُ نورًا إلهيًا في العالم والمعلوم انهُ لم ينطق بأقواله ولا عمل في زاوية فإن أمورهُ كلها كانت ظاهرة لأجل إفادة البشر، كما قال: لأنهُُ ليس شيء خفي لا يظهر ولا صار مكتومًا إلا ليُعلن. كان هو خفيًا ومكتومًا في الأول، ولكنهُ صار ظاهرًا بخدمة المحبة وكذلك تلاميذه فإنه اجتذبهم إليهِ وأنارهم وبعد ذلك عينَّهم للإضاءة للآخرين، ونحن أيضًا كذلك إن كنا قد استفدنا منه حقيقةً فإننا قد صرنا نورًا مخفي. وعلى قدر ما نُنير للآخرين نزداد وننمو في النور، كما قال: بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم؛ لأن مَنْ لهُ سيُعطى، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منهُ.
26 وَقَالَ:«هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، 27 وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28 لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. 29 وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». (عدد 26-29).
ثم نطق بمثل آخر يُبين طرقهُ وأعمالهُ بيانًا صريحًا. فقد شبه الملكوت برجل ألقى البذار على الأرض ثم نام واستيقظ ليلاً ونهارًا والزرع ينمو ويزداد وهو لا يلاحظ ذلك فإن الأرض اطلعت ثمرًا من نفسها أولاً نباتًا ثم سنبلاً ثم قمحًا ملآن في السنبل. ولما أدرك الثمر أُرسل المنجل للوقت؛ لأن الحصاد قد حضر. فمن ثمَّ قد عمل الرب شخصيًا زرع كلمة الله على الأرض وفي النهاية سيعود ويعمل أيضًا شخصيًا عندما تأتي دينونة هذا العالم. أما الآن فيظل جالسًا عن يمين الله كأنه لا يهتم بحقله على أنهُ يعمل بنعمتهِ سرًا ويُنشئ كل شيء صالح، غير أن ذلك ليس بمعلن إعلانًا ظاهرًا. فهو يعمل غير منظور لإنماء الزرع بنعمتهِ بطريقة إلهية بينما يسمح للإنجيل حسب الظاهر بالنمو بدون أن يتداخل بهِ حتى الحصاد، ثم يظهر ثانيةً ويعمل بنفسهُ علنًا.
30 وَقَالَ:«بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ 31 مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. 32 وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا». 33 وَبِأَمْثَال كَثِيرَةٍ مِثْلِ هذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا، 34 وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ. (عدد 30-34)
ثم علَّم الشعب أيضًا بمثل آخر. لا نرى هنا شرح الملكوت واردًا كما في الأصحاح الثالث عشر من مَتَّى، بل نُعاين المُبادئة العظيمة وعمل الرب بالمقابلة مع إعلان الملكوت وتأسيسه بحضوره. فإنهُ ينمو في غيابهِ على كيفية لا يعرفها أحد معرفة إنسانية. فالملكوت يُشبه حبة الخردل أصغر البذور، ولكن حالما تنمو تُصبح نباتًا عظيمًا إلى أن تتحول إلى شجرة كبيرة تتآوى طيور السماء في أغصانها. ذلك يضارع الديانة المسيحية البذرة الصغيرة المتأصلة من إنسان محتقر ومخذول من العالم، فقد أمست قوة عظمى على الأرض ونشرت أغصانها على كل الأنحاء والجهات. يجب أن نلاحظ أن الرب لا يقول: الشجرة الكبيرة جيدة أم لا. غير أننا نعلم من محلات أخرى من الكتاب أنها لا تناسب عملاً روحيًا والوحي لم يُلهم مرقس لا يعطينا معاملات الله السياسية ولا يوضح هيئات الملكوت السرية بعد رفض المَلك. يوجد ملكوت إلهي في مدة غياب المسيح يعني الله نفسه لا يزال يعمل ويُقال لعمله ملكوت الله، وأما مرقس فإنما يشير إلى وجهين من أوجهه كما قدر رأينا في هذين المثلين ولا يجوز لنا أن ننسب له أخطاء أو تقصيرًا في المعرفة كأنه لم يعرف أن يوضح موضوعه توضيحًا كاملاً كمَتَّى؛ لأنهُ بالحقيقة إنما يوجد مؤلف واحد للأناجيل الأربعة وهو الروح القدس الذي شاء واستخدم مرقس أولا لإدراج مَثل البذار الملقى على الأرض، فالأهمية هنا لوقت الزرع ووقت الحصاد، وأما في أثناء ذلك فتجري الأمور مجراها كان صاحب البذار لا يدري ولا يبالي بما يحصل ولا يفرض بحسب صورة المثل مضى أكثر من جيل واحد أو بالأحرى موسم واحد فإن الأمر الأعظم بعد الزرع هو الحصاد. فكان الرب حاضرًا بقوة إلهية ألقى البذار على الأرض وسيحضر هكذا أيضًا لإجراء الحصاد أي الدينونة. وثانيًا مَثل حبة الخردل الذي إنما يُظهر حقيقة نمو الديانة المسيحية في العالم من أصغر بداءة إلى أن بلغت مقامًا عالميًا عظيمًا. فيتضح لنا إذا أمعنَّا النظر أن قصد الوحي بإدراج المثلين يختلف عن قصدهِ بما ألهم البشير مَتَّى، ثم كرر الإنجيلي كلامهُ بأن السيد كلَّم الجموع بأمثال ولم يُخاطبهم بسوى ذلك، ثم فسر لتلاميذهِ على انفراد معاني أقوالهِ.
35 وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». 36 فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. 37 فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. 38 وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» 39 فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ:«اسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40 وَقَالَ لَهُمْ:«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» 41 فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!». (عدد 35-41).
ثم نرى في هذا الفصل سُلطانهُ على العناصر المُضطربة وأَمن خاصتهِ في الأخطار والمصاعب حتى في حين يخال كأنهُ غير مُبالٍ بما ألمّ بهم من النوازل. ثم نرى نسبتهُ للأُمة اليهودية وقضاءهُ عليها فإنه بعد صرف الجموع دخل يسوع سفينةً وذهب لينام وإذا بعاصفة ثارت على البحيرة حتى ملأَت الأمواج السفينة، فارتاع التلاميذ كل الروع فأتوا وأيقظوه فنهض وانتهر الريح، وقال للبحر: اسكت. أبكم. فسكنت الريح وصار هدوءٌ عظيم، ثم وبخ التلاميذ على عدم إيمانهم. فيا أيها القارئُ أتظن أن ابن الله يعتري سُلطانه الفشل والنقص من نوء فُجائي على بحيرة جنيسارت؟ كلاَّ. إن ذلك بالمُستحيل؛ لأن مقاصد الله ومشوراتهَِ كانت مجموعة في شخصهِ ولم يكن للحوادث العرضية بحسب نظر البشر أن تهبط ما كان الله قد قصدهُ منذ الأزل وليس ذلك فقط، بل قد اختار أُناسًا من البشر وأتى بهم إلى المسيح وجعلهم مُقترنين معه كل الاقتران. أكان يليق بالتلاميذ الروع وهم في سفينة واحدة مع يسوع. فما ذلك الأمثال وتنبيه لنا. فإننا على الدوام في سفينة واحدة مع يسوع إذا كنا صانعين مشيئتُه وتلك السفينة تمرُّ بنا في أخطار الحياة المسيحية ومصاعبها في خلال سفرنا على الأمواج المزبدة من بحر الحياة العجاج والخدمة المسيحية. فربما خلنا أنهُ نائِم، ولكن وإن سمح للعاصفة بالهبوب امتحانًا لإيماننا لا يسمح بغرقنا وهلاكنا لأننا معهُ في النوء. لا جُرم أن لا سلطة الهلاك عليه ولا علينا. وربما لاح لنا انهُ غير مبال بنا ولكني أكرر ما قلته بأننا معه في مركب واحد فأمنهُ هو كأمتنا نحن لا محالة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:28 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح السادس 
1 وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى وَطَنِهِ وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ. 2 وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ:«مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ 3 أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ. 4 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ». 5 وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ. 6 وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ. (عدد 1-6).
إن قوة المسيح الإلهية وإن كانت عظيمة لم تظهر على أسلوب يُؤيد كبرياء الإنسان وعُجبِ طبيعتهِ البشرية، فالإنسان كان مُكلَّفًا بقبولهِ؛ لأنهُ أعلن صفات اللاهوت، فلم يشاء أن يملق ويُعضد الأهواء الإنسانية ولا أهواء اليهود كأُمة. فإذا قبِلَ الإنسان الله وجبِ عليهِ أن يقبلهُ كما هو غير أن الطبيعة الساقطة تأبى أن تفعل ذلك، ولا يُخفى أن الطبيعة الإلهية قد أعلنت باتضاع يسوع إعلانًا أجلى وأفضل مما لو جاء كمَلِك مجيد، لكنهُ لم يكن في حالٍ يصبو إليها القلب الإنساني؛ لأنهُ كان ابن النجار وذلك كان كافيًا لرفضهِ من البشر، فقد حكموا حسب الجسد؛ لأن أنسباء يسوع كانوا بينهم فلم يقضوا إلا بحسب رأي العين الجسديَّة. أما الرب فتعجب من عدم إيمانهم وتركهم بعد أن لبى طلب بعضهم؛ لأن نعمتهُ لا تُفرَغ ولا تستقصى، وقال: أن ليس لنبي كرامة في وطنهِ، فإنهُ هناك كان معروفًا حسب الجسد. وكذلك كان الأمر ليس في كفرناحوم فقط بل في إسرائيل أيضًا. انظروا كيف أن عدم الإيمان هو المانع الأعظم لإجراء قوة الله. أما إيمان المرأة العليلة التي لمست ثوبهُ فكان باعثًا على ظهور تلك القوة، كما أن جحود أبناء وطنهِ وعدم إيمانهم حال دون إجرائها، فقد رأينا كيف أنهُ لم يستطع أن يفعل آية واحدة هنالك. فنسألهُ تعالى أن يصوننا حتى لا نضع مانعًا في سبيل نعمتهِ التي لا تنفكُّ عن العمل إلا إذا حُجزتْ بعدم الإيمان، فعلينا أن ندرك قيمة الانتفاع بقوتهِ وان تحملها على العمل فينا بالإيمان.
7 وَدَعَا الاثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ، 8 وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ، لاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ نُحَاسًا فِي الْمِنْطَقَةِ. 9 بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال، وَلاَ يَلْبَسُوا ثَوْبَيْنِ. 10 وَقَالَ لَهُمْ:«حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. 11 وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ». 12 فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ يَتُوبُوا. 13 وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ. (عدد 7-13).
ثم أرسل يسوع تلاميذهُ للخدمة، فلنا بذلك بينة على قوَّتهِ اقطع من معجزاتهِ نفسها. فإنهُ أعطاهم السلطان على اجتراح الآيات وإخراج الشياطين فلا ريب في أن هذه قوة إلهية؛ لأن الله وحدهُ يقدر أن يجعل الإنسان قادرًا على صنع العجائب والآيات. أَيستطيع الإنسان أن يُعطي غيرهُ هذا السلطان؟ كلا. أما يسوع فمنح تلاميذهُ هذه الهبة فتقلدوها وأخرجوها الشياطين حقيقةً، وما ذلك إلاَّ لأن يسوع كان الله قد ظهر بالنعمة على الأرض. فقد سبقنا وقلنا أن معجزات الرب كلها ومعجزات تلاميذهِ لم تكن نتيجة القوة فقط مثل عجائب موسى وإيليا، بل هي أثمار الجودة الإلهية، على أنهُ ربما استثنينا من ذلك لعن شجرة التين غير أن هذه الآية ليست إلاَّ دليلاً على هذا الموضوع نفسهِ. أي حضور الله في الجسد بحيث أنهُ من الضرورة أنهُ يفعل الأعمال اللائقة بطبيعتهِ التي هي المحبة، ولكن إذا رُفض فلا بد أن يدين ولا دينونة كدينونة المحبة المرفوضة، فإن شهادة يسوع المرسومة بالمحبة والمُثبتة بآياتهِ الباهرة كانت قد رُفضت. وأصبح إسرائيل المُمَثل القلب الإنساني عقيمًا ولم يأتِ بأثمار بعد أن بذل الله بجودتهِ وإعلانهِ كل العناية المُمكنة لإصلاحهِ، ومن ثمَّ قضى على تلك الشجرة المجدبة قضاءً أبديَّا فلن تأتي بأثمار. وحُكم الله على إسرائيل هو حُكمهِ على الإنسان الساقط على وجه الإطلاق، ونقدر أن نقول: أن الإنسان قد أوضح صفاتهِ السيئَة تمامًا في تاريخ إسرائيل، أي أنهُ مُفعم من الإثم الفظيع حتى عجزت كل الوسائط التي استعملها الله عن إيقاظ عاطفة واحدة في قلبهِ نحو خالقه،ِ بل اتصل بهِ الشر والعناد إلى رفض ابنهِ الوحيد فأمسى مرفوضًا من الله ومقضيًا عليهِ نظرًا لحالتهِ الطبيعية. على أنهُ لهُ المجد يستطيع أن ينقذهُ بإعطائهِ طبيعة جديدة بروحهِ القدوس إنما لا رجاء لهُ في حالتهِ الطبيعية؛ لأنهُ مهما تكلفنا لأجل إصلاح البشر وإرجاعهم إلى الله، فلا نستطيع أن نعمل أكثر مما عمل الله لإسرائيل انظر (إش1:5-7)، ولم ينتج من جميع أعمالهِ اللطيفة سوى كشف الحقيقة المُحزنة أن الإنسان غير قابل الإصلاح فإذًا ينبغي أن يولد ثانيةً.
وفضلاً عن أن ليسوع قوة على إعطاء تلاميذهِ سلطانًا على الأرواح الشريرة، لهُ سلطة أيضًا على إخضاع القلوب البشرية والتصرُّف بها كيفما شاء بحيث يستطيع أن يرتبها بعنايتهِ ويستخدمها لتتميم أوامرهِ موقنًا، كما يستخدم الرياح والعناصر. فإنهُ أوصى تلاميذهُ بالانطلاق وأن لا يأخذوا شيئًا في سفرتهم. ومع ذلك شهدوا أخيرًا حسبما ورد في إنجيل لوقا جوابًا لمُعلمهم أنهم لم يحتاجوا شيئًا. فقوة عمانوئيل قد عضدتهم. ذلك الذي نشر سلطانهُ في كل مكان فتقلدوا بهِ وحتم عليهم أن يمكثوا في كل بيت دخلوهُ إلى أن يرحلوا عن ذلك المكان، فكان يجب عليهم أن يؤَهّبوا أنفسهم لهذه الخدمة ويستعينوا بسلطان سيدهم للقيام بأعباء تلك الرسالة وأن يسلكوا بحسبها. وقد أُمروا أن ينفضوا غبار أرجلهم في كل مكان تُرفض بهِ تلك الرسالة شهادةً على ذلك الموضع الذي تكون حالتهُ أردأ من سدوم وعمورة في يوم الدين. فإنهُ يحسب رسالة التلاميذ هذه كالفرصة الأخيرة لإسرائيل ليتنبهوا أو يجزموا بمسألة حضور مسيحهم في وسطهم، وإن رفضوهُ فليس لهم بعد إلا الدينونة مثل سدوم وعمورة. معلوم من إنجيل لوقا أنهُ عاد وأرسل إليهم سبعين تلميذًا آخرين قبل صعودهِ إلى أورشليم في نهاية حياتهِ على الأرض ليكرزوا بالإنجيل، غير أن مبادئ خدمتهِ الواردة في إنجيل مرقس كانت الشهادة الأخيرة قبل قضائهِ على تلك الأُمة؛ فلذلك لا يوجد ذكر لرسالة السبعين كما في إنجيل لوقا. فتلك إنما كان الاستئناف الأخير المرفوع إلى ضمائر الشعب وقلوبهم لكي يقبلوا الرب ويتوبوا ويرجعوا إلى الله فينجوا من الدينونة الهائلة المحكوم بها عليهم وليعود منهم على الأقل بقية تؤثر بها كلمة الله الفعالة وتتمتع بجودة الله بالمسيح وتنال رجاء أفضل مما تستطيع الديانة اليهودية أن تعطيها.
فانطلق التلاميذ يكرزون للقوم بالتوبة. فما أعظم النعمة المعلنة ببشارة الإنجيل! فإن الله لا يمنحنا فقط التمتع بخلاصهِ ومحبتهِ، بل يستخدم أُناسًا كآلات لإبلاغ تلك المحبة. فكم يجب أن نُباركهُ لتنازلهِ بأن يستخدمنا لحمل شهادة محبتهِ الفائقة وحقهِ وإيصالهما إلى قلوب البشر أو على الأقل إلى مسامعهم لكي يُبلغهما هو نفسهُ بنعمتهِ إلى قلوبهم. فنسألهُ تعالى أن يجعلنا نختبر اختبارًا يقينًا قيمة هذه المحبة وان يُفعم قلوبنا منها إن كَرزنا حتى نُمَثل تلك النعمة الداعية البشر إليهِ تمثيلاً حقيقيًا. فعلى ذلك رافقت قوة الله التلاميذ فأخرجوا الشياطين وأبروا المرضى.
فائدة. قيل هنا: وأوصاهم أن لا يحملوا شيئًا للطريق غير عصا فقط، وأما في (مَتَّى 10:10) فيُقال: ولا عصا. فتوجد بحسب الظاهر مضادة بين العبارتين. كانت الرسالة واحدة، ولكنها قد ذُكرت باعتبار وجهين مختلفين فوجهها في مَتَّى هو أرسلهم من قِبل المَلك بعجل لينادوا بحضورهِ، فيعبر عن العجل واللجاجة بالعبارة ولا عصا. وأما القصد في مرقس فهو الكرازة بالتوبة وهي جزء من الخدمة المسيحية الاعتيادية. قابل مع رسالتهم المذكورة في آخر هذا الإنجيل (أصحاح 15:16، 20).
14 فَسَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُورًا. وَقَالَ:«إِنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ». 15 قَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ إِيلِيَّا». وَقَالَ آخَرُونَ:«إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ». 16 وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ:«هذَا هُوَ يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ!» 17 لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. 18 لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ:«لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ» 19 فَحَنِقَتْ هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ، 20 لأَنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ سَمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيرًا، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ. 21 وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ، لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِهِ عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وَقُوَّادِ الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، 22 دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا وَرَقَصَتْ، فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ: «مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ». 23 وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ «مَهْمَا طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّكِ حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي». 24 فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا:«مَاذَا أَطْلُبُ؟» فَقَالَتْ:«رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ». 25 فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً:«أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي حَالاً رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَق». 26 فَحَزِنَ الْمَلِكُ جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّهَا. 27 فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سَيَّافًا وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ. 28 فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ. وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَق وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا. 29 وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ. (عدد 14-29).
ففي هذا الحين بلغت أنباء أعمال يسوع وقوتهِ مسامع المَلك فاضطرب ضميرهُ في داخلهِ؛ لأنهُ كان قد قتل يوحنا المعمدان، فهنا نرى بداءة تاريخ الحوادث الكاشفة مضادة القلب الإنساني لشهادة الله. ووضح بموت سابق المسيح العدوان الحق والنور الذي لا يزال من الآن فصاعدًا يشتدُّ ضد المسيح نفسهُ إلى أن ينتج موتهُ أيضًا، أما ضمير هيرودس الطبيعي فكان قد حملهُ على الإصغاء ليوحنا وأنشأ فيهِ الخوف من ذلك الرجل الصالح الأمين في توبيخهِ على أعمالهِ الشريرة فظلَّ زمانًا يحفظهُ من عدوان هيروديا، غير أن العواطف الطبيعية ليست بكافية لتضبط الإنسان الطبيعي وتُرجعهُ عن سيرهِ في مسالك المُهلك؛ لأن شهواتهِ وان كانت مضبوطة إلى حين فلابد أنها أخيرًا في وقت التجربة تقوى على مخاوفهِ الطبيعية وعلى اعتبارهِ لأهل التقوى وتذهب بهِ إلى العمل بموجبها. فما لبث حتى أهاجتهُ خمرة الشهوة والكبرياء الملكية فأمر بقتل ذلك النبي الفاضل. وما ذلك إلاَّ مثال مؤلم على خداع الذات. وذلك حين يتصور الإنسان نفسهُ قويًا وقادرًا على إظهار سلطتهِ فينكشف على الفور ضعفهُ وعبوديتهُ للشهوات، فهذا جميعهُ مما يبين مشيئة الله الذي يتمم مشوراتهِ رغمًا عن شرور البشر. وإن ضمح لهيرودس المَلك ولغيرهِ بأن يسلكوا في سبيلهم، فلابد انهُ تعالى يتخذ سبيلهُ هو فان عدوان القلب الإنساني لابد من ظهورهِ فيصير إدخال أمور أفضل جدًا بنعمة الله الفائقة بواسطة رفض يوحنا المعمدان ويسوع المسيح نفسهِ.
30 وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. 31 فَقَالَ لَهُمْ:«تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. 32 فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ. 33 فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. 34 فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا. 35 وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. 36 اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ وَالْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزًا، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». 37 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ:«أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزًا بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيَهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» 38 فَقَالَ لَهُمْ:«كَمْ رَغِيفًا عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا:«خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». 39 فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقًا رِفَاقًا عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. 40 فَاتَّكَأُوا صُفُوفًا صُفُوفًا: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. 41 فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، 42 فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. 43 ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. 44 وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. (عدد 30-44).
فعاد التلاميذ وقصوا على يسوع كل ما فعلوهُ وعلَّموا بهِ، ذلك كان أمرًا طبيعيًا بأن يكونوا مفعمين مما جرى عن يدهم. أما يسوع فلم يقل شيئًا عن ذلك؛ لأن القوة عندهُ من الأمور الطبيعية التي كان معتادًا عليها فأراد أن ينفرد مع التلاميذ في مكان خلاء ليستريحوا قليلاً في العزلة. فيحسن بنا على الدوام، بل من واجباتنا نحن الضعفاء البائسون الغير القادرين على احتمال نتائج القوة الجارية بواسطتنا والمائلون لنسبتها لأنفسنا أن نعتزل أوقاتًا كثيرة في حضرة الله حيث نرى أنفسنا بالحقيقة، كما نحن وأن نتمتع بمحبتهِ في أمن مهما كانت البركات التي نحن حاصلون عليها في خدمتنا، بل كلما عظمت تلك البركات رأينا لزومًا لذلك. وذلك ما فعلهُ السيد برحمتهِ الفائقة نحو خاصتهِ.
غير أن محبة الله لا تجد راحة في هذا العالم ولا تكف عن العمل، فالإنسان لا يجد محبة حقيقية في القلوب البشرية ولا يعرف ينبوع المحبة الذي في قلب الرب فكأنه يخاف أن يتعب الرب ولا يُريد أن يستمد منهُ كل ما يلزم لسد احتياجات المحتاجين. ونرى هنا مثالاً لذلك إذ تقدم إليهِ تلاميذهُ قائلين الموضع خلاء والوقت مضى أصرفهم لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا ويبتاعوا لهم خبزًا؛ لأن ليس عندهم ما يأكلون. أما المحبة الإلهية فلن ترفض الاهتمام بحاجات الإنسان فعرف القوم بوجود يسوع في ذلك المكان فبادروا من كل مدينة وخرجوا من عزلتهم ووافوا يسوع، فلما رأى ذلك الجمع العظيم تحنَّن عليهم؛ لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها. فشرع يُعلَّمهم. تلك هي حاجة الشعب المتروك من رُعاتهِ الأولى الحقيقية. ومازال السيد مُهتمًا بحاجة شعبهِ الجائع، فأراد التلاميذ أن يصرفوا الجموع أما يسوع فشاء أن يَقوتهم. فلهذه الآية دلالة خطيرة بنفسها بالنظر لمحل إيرادها في هذا الإنجيل. فإن يهوه هو راعي إسرائيل الحقيقي وكان حاضرًا هنالك بشخص يسوع ذلك الذي كان بالحقيقة مرفوضًا، على أن شفقتهُ ومحبتهُ لم تضعفنا أو نقلا بعدم شكر الشعب وكنودهم.
فقد أظهر أنهُ يهوه بالحقيقة بإتمام ما تنبئ عنهُ في (مزمور 15:133) «أتى اشبع مساكنها خبزًا». فهذا المزمور يُنبئ عن زمان المسيح الذي سيتم في الأيام الأخيرة، غير أن مُكملهُ كان حاضرًا، وإن كان قد رفض فقد برهن على أن يهوه افتقد شعبهُ بإشباع البائسين خبزًا، على انهُ كان قد أنبأ بأن ابن الإنسان سوف يُقتل وأن الشعب لا يقبلون مخلصهم وإلههم، لكنهُ مع كل ذلك لم يغادر محبتهُ. فإذا كان القوم لا يُريدون يهوه فهو يريدهم ويهتم بهم. فقد أعطى بذلك شهادة خطيرة على محبتهُ لأتكل، بل تفوق جهالة الإنسان وحمقهِ. فالمجد والسجود لأسمهِ على هذه المحبة. ذلك مما يؤيد استنادنا على فضلهِ الغير المتناهي حتى لا يسمح لنا بالسقوط في ورطة الإهمال، بل يُعَضدنا في ضعفنا؛ لأن محبتهُ أعظم من قصورنا وذلنا فهذا مما يحملنا على تأدية السجود لصبرهِ العجيب.
ثم أننا نرى في هذه الآية حقًا آخر خطيرًا وهو، أن السيد لم يقل: أنا أُعطيهم ليأكلوا، بل أعطوهم أنتم ليأكلوا. فإنهُ أراد أن يعرف تلاميذهُ حقيقة استخدام قوتهِ لخير الآخرين لكي يعلموا كيف يستعملوها بالإيمان. فيا لسمو هذا الفكر! وهو أن الإيمان الحقيقي يستخدم قوة يهوه في أحوالٍ تُبين أن محبتهُ تفوق عدم أمانتنا وقصورنا. فما أهم هذا الحق، وما أرفعهُ لمن تأمل به بأن يسوع صورة هذه المحبة المتجسدة يعلن أفضلية نعمة الله وعلوها عن خطايانا! ولكن الله بين محبتهُ لنا؛ لأنهُ ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. فموتهُ هو البرهان القاطع لمحبتهِ، غير أن ما وضح في موتهِ يصبح أيضًا على حياتهِ فالإيمان يستند إذًا على أمانة محبتهِ التي لا تُستقصى ويستعمل القوة المُكملة في الضعف. أما نظر التلاميذ الجسدي فلا ينظر إلا الوسائط الجسدية ولا يُعاين محبة الله وسلطانهُ، بل يرى الأشياء المنظورة فقط، لكنَّ السيد أعطى طعامًا للجموع الجائعة وأوضح بذلك أنهُ إله إسرائيل ومُخلصهُ.
45 وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلَى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ. 46 وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. 47 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. 48 وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ. 49 فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا. 50 لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ:«ثِقُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». 51 فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدًّا إِلَى الْغَايَةِ، 52 لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً. 53 فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا. 54 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. 55 فَطَافُوا جَمِيعَ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ. 56 وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ. (عدد 45-56).
الحادثة المذكورة هنا تصور حالة المؤمنين بعد رفض الرب وهم مضطربون على بحر هذا العالم، ثم الترحيب الذي يصادفهُ الرب في ختام تاريخ العالم الذي قد رفضهُ حين يأتي إليهِ ثانيةٍ. فألزم يسوع تلاميذهُ بالذهاب وحدهم وصرف الجموع وبعد انصرافهم انطلق إلى الجبل ليُصلي، وهذا مَثل تلميح إلى ما حصل عند انتهاء خدمتهِ لإسرائيل ورَفضهم إياهُ فإنهُ صرفهم في عدم إيمانهم وصعد إلى السماء ليشفع في الذين آمنوا بهِ بينما هم يتخبطون في أحوال الحياة كما في أمواج الأبحار الهائجة، ومادام هو هناك ونحن هنا تكون الريح مضادة ونحن نتعب في الجذف وتتقاذفنا الأنواء والمصاعب والهموم، ونرى كأنه قد تركنا، لكنهُ يشفع فينا على الدوام ويحصل لنا رحمة ونعمة في حين الحاجة. أما إسرائيل فقد صُرف وتبدد في مدة إقامة الكنيسة على الأرض.
فحادثة وجود التلاميذ على البحر تمثيل أيضًا البقية اليهودية التي قد أصبحت بالحقيقة الكنيسة بعد يوم الخمسين، غير أنها تُعتَبر في هذا المكان بصفة البقية الإسرائيلية فقط. لا يُخفى أن مدة غيابهِ كلها محسوبة ليلاً لهذا العالم المُظلم ولا نزال في حالة لا يوجد فرق بيننا نحن المؤمنين المسيحيين قبل الاختطاف وبين الأتقياء اليهود بعد ذلك، غير أننا ننتظرهُ كوكب الصبح المنير ليأخذنا لملاقاتهِ، وأما أولئك فينتظرون أن يأتيهم حيث هم. ولكن الحادثة المذكورة هنا تفيدنا روحيًا في جميع الأحوال المضطربة بحيث أن يسوع أدرك السفينة ماشيًا على البحر فإنهُ يستطيع أن يمشي بسكون على أحوال وظروف تُنشئ لنا اضطرابًا جسيمًا. فجزع التلاميذ، لكنهُ بادر لتعزيتهم وأكد أنهُ هو نفسهُ خليلهم ومُخلصهم العزيز فهذا الأمر نفسهُ يحدث في انقضاء الأزمنة، فإن يسوع سيظهر متعاليًا على كل الأحوال المُسببة لتلاميذهِ انزعاجًا وقلقًا ويُسكن لهم الرياح المضادة ويُبكم الأمواج المتلاطمة كما عمل لما مشى مع تلاميذهِ على الأرض في أيام جسدهِ.
ثم نرى أنهُ بعد انضمام الرب إلى تلاميذهِ المضطربين صار لهُ قبول عند سكان أرض جنيسارت التي كانت قد رفضتهُ قبل (أصحاح 17:5)، وهي بمثابة هذا العالم الذي قد رفض الرب مرة، ولكنهُ سيقبلهُ عند إقبالهِ إليهِ بصفات مجدهِ؛ لأنهُ سيملأهُ بركة وفرحًا بعد سكب ضرباتهِ عليهِ لأجل تنقيتهُ ويكون لهُ القبول منهُ بدل الرفض. هذا مما تفيدنا هذه الحادثة على سبيل الرمز، ولكن في الوقت الحاضر تحتاج خصوصًا إلى ما تفيدنا من جهة مرورنا في الظروف المُتعَبة ونحن حاملون الصليب وراء السيد المرفوض.
فهل قلوبكم متأهبة لقبول هذا التعليم؟ أتَعلَّمتم أن حمل الصليب إنما هو مقام المسيحي الحقيقي ونصيبهُ، وأنهُ هو السبيل الذي قادنا إليهِ يسوع؟ فإذا رُمنا أن نسير على هذه الكيفية افتقرنا لشخص يستطيع أن يسود على قلوبنا ويملك محبتنا وعواطفنا ويُثبتها على ما هو تلقاءنا ويقودنا إلى الأمام. وما ذلك إلا يسوع الذي أحبنا وأسلم نفسهُ إلى الصليب لأجلنا، وهو الآن في المجد ويقودنا نحوهُ ويُرينا ما هي طريق الصليب لكي نكون معهُ ومثلهُ سالكين في السبيل نفسهُ الذي سار فيهِ بمحبتهِ لأجلنا. فقد قال لهُ المجد: إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:33 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح السابع 

1 وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. 2 وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا. 3 لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ، لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ. 4 وَمِنَ السُّوقِ إِنْ لَمْ يَغْتَسِلُوا لاَ يَأْكُلُونَ. وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَسَلَّمُوهَا لِلتَّمَسُّكِ بِهَا، مِنْ غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ نُحَاسٍ وَأَسِرَّةٍ. 5 ثُمَّ سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ:«لِمَاذَا لاَ يَسْلُكُ تَلاَمِيذُكَ حَسَبَ تَقْلِيدِ الشُّيُوخِ، بَلْ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ؟» 6 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا تَنَبَّأَ إِشَعْيَاءُ عَنْكُمْ أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا، 7 وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. 8 لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! 10 لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. 11 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي 12 فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئًا لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. 13 مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». (عدد 1-13).
هذا الأصحاح ملآن من التعاليم الخطيرة جدًا فإنهُ يحتوي: أولاً: على قضاء الرب على تقوى رؤساء الديانة اليهودية الخارجية التي لم تكن إلا بالظاهر فقط، وقد أبعدت عنها ناموس الله وشريعتهُ. فكل تلك الغسلات يحتقرها الله؛ لأن الفريسيين كانوا أهملوا وصايا الله ليحفظوا تقليداتهم. ويتضمن ثانيًا: تصريح الرب بأن ما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يصدر من القلب. لا ما يدخل الفم. ثم بعد قضائهِ على إسرائيل والبشر عمومًا أعلن بكيفية مؤثرة جدًا نعمة الله الفائقة المُخترقة كل حاجز لبلوغ حاجة الإنسان خارجًا عن الحقوق كلها المؤسَّسة على المواعيد. أعني حادثة الإمرأة الكنعانية المذكورة في هذا الأصحاح، فإن الرب بعد أن كشف رياء رؤساء إسرائيل نعم ورداءة القلب البشري مُطلقًا بادر إلى إعلان قلب الله ونعمتهِ التي تعين الذين أغاظوا الله بممارستهم الأعمال الدينية على طريق لا تقتضي طهارة القلب.
فإن الإنسان يسهل عليهِ عمل الأشياء الخارجية، فإنهُ يصبو لأَن يتقلد الديانة ك**اء خارجي ولا يفتقر لطهارة القلب. ويميل لأن يفعل الأمور الدينية الظاهرة ويتعظَّم ويُميز نفسهُ عن الآخرين بعملها. ولا يخفى أنهُ يفتخر بتقواهُ العظيمة أمام الناس ويفوز بالحصول على شهرة جسيمة، إنما في استطاعتهِ أن يكون في الوقت نفسهِ شريرًا؛ لأن تلك الأعمال الخارجية لا تأتي بهِ إلى حضرة الله الفاحص القلوب. فيستطيع الإنسان بتلك الأعمال أن يكون مُتعصبًا في الدين بدون قداسة القلب ويرى أن ذلك يُلائمهُ كل المُلائمة. فالفريسيون ليسوا فقط في زمان مُخلصنا، بل هم موجودون في كل زمان. فالديانة الفريسية تتعلق دائمًا بنظام كنائسي حيث يترأس البعض على الآخرين بموجب وظيفة كنائسية تُحسب إنها من الله والركن الأعظم فيهِ هو الخضوع إلى الترتيب البشري لا الإيمان الشخصي بكلمة الله، غير أن الإيمان الشخصي وحدهُ ينشئ قداسةً وشركة مع الله المُعلن نفسهُ بهما. أما سطوة الإنسان الرسمية التي يستخدمها لمنفعة نفسهِ فلا تبالي بإرادة الله ووصاياهُ ولا تكترث بها. ذلك كان جاريًا بين اليهود، فإنهم غسلوا أيديهم لا قلوبهم ودققوا بما يدخل الفم، ولكنهم تهاونوا بما يخرج من القلب.
فهذه هي ديانة الإنسان في كل آن فيُحافظ عليها ويتزيّن بها ويتفاخر كفخرهِ في المجد العالمي، ولكنه لا يستطيع الحصول على القداسة بهذه الوسيلة ذلك واضح لدى أبصار الله الناظر كل ما في القلوب. فإن القداسة لا بد أن تظهر في حياة المؤمن الحقيقي وسيرتهِ، على أنهُ وربما سقط غير أن النفس المعضودة بالنعمة لا تطلب إلا رضى الله وتشعر بضعفها وتفرح بالله الحال بها فهو الذي ينشئ بها الاتضاع والوداعة. أما الفريسيون والصدوقيون بين اليهود، فقد استخدموا شهرتهم ومقامهم لحمل الأتقياء على تقديم عطايا كثيرة لله مدَّعين النيابة عنهُ فانتفعوا هم بها. فحملوا الشعب إلى مُخالفة شريعة الله الصريحة وإهمال بعض الواجبات العظيمة كالتي على الأولاد لوالديهم فقد أكرموا الله بشفاههم، أما قلوبهم فكانت بعيدة عنهُ واقتربوا منهُ بأفواههم لا بقلوبهم الملآنة من الطمع والإثم. فالله يرفض هذا الإكرام كل الرفض، كما قال بلسان إشعياء النبي: وباطلاً يعبدونني وهم يُعلّمون تعاليم هي وصايا الناس. فإن الله إنما يطلب القلب الطاهر المُقدَّس بالروح والحق ويُريد عبادةً تُقدَّم له بالروح والحق ولا يمكن السجود له إلا هكذا لا شك أنهُ يُظهر لنا نعمةً، غير أن الحق لازم للاستطاعة على الاقتراب إليهِ، فإنهُ يُريد قلبًا توجد فيهِ الحياة الإلهية. أما الديانة الإنسانية والعبادة الفريسية الكهنوتية فقد قضى عليها الرب حينئذ وفي كل حين أيضًا. فالله يطلب القلب الطاهر والطاعة الحقيقية، غير أن الإنسان ي**و نفسهُ بتلك الديانة ويكرم بها عوائدهُ القديمة وتقليدات آبائهِ وينسب إليها بأوهامهِ وتصوراتهِ قيمةً عظيمة. فكلما يُنظر بنور القدميَّة بروق للإبصار ويلوح بمظهر الهيبة والوقار، أما الله فلا يلتفت إلا إلى القلب فهذا الشيء نفسهُ يصدق علينا الآن، كما كان يصدق على اليهود وقتئذٍ. فما نحن إلا أمام الله وهو يرانا كما نحن. فالمسألة عنده تعالى إنما هي حالة الإنسان الحقيقية كما سنرى في الفصل القادم.
14 ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ:«اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. 15 لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 16 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». 17 وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. 18 فَقَالَ لَهُمْ:«أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، 19 لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلاَءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ». 20 ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21 لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22 سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23 جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ». (عدد 14-23).
فما هي هذه القلوب البائسة في حالها الطبيعية، هذه هي المسألة الثانية التي يهتم بها الرب هنا ويعلنها. فقد مزَّق برقع الرياء الذي حاول الفريسيون والكهنة أن يستروا بهِ نجاسة قلوبهم وأن يستخدموا لنفعهم الذاتي التقوى الخارجية التي علَّموا بها الشعب فانكشفت البواعث الكامنة في قلوبهم وظهرت الوسائل التي استعملوها لستر خباثة طويَّتهم وأطماعها ووضح الرياء كل الوضوح. لا جرم أن السيد لم يُمزق برقع الرياء فقط، بل كشف ما يصدر من القلب أيضًا. فهذا ما يفعلهُ الله معنا، فإنه يفحص قلوبنا ويعلنها ثم يعلن قلبهُ نحونا، ذلك هو الكشف الصريح العام لا كشف قلوب الفريسيين فقط، بل قلوب البشر بأسرهم. فما يخرج من الفم يُنجس الإنسان؛ لأنهُ يخرج من القلب. فيا لها من صورة هائلة! لأن أثمار القلب الإنساني ليست إلا الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل وبالاختصار لا يخرج منهُ شيء إلا الرذائل بأنواعها.
أكان الرب فاقد الإحسان والمحبة للإنسان؟ كلا. فإن مجيئهُ إنما كان بينة قاطعة على محبتهِ. أَ أراد أن يُخفي الصلاح الحال في الإنسان؟ أَشاء أن يشي بالمخلوق الذي وافى لإنقاذهِ ومُباركتهِ وليُعطيهُ مكانًا عنده ويُشاركهُ معهُ بالمجد والكرامة؟ كلا. فإن ذلك مستحيل، بل لأنه كان عارفًا القلب الإنساني كل المعرفة التزم أن يقول الحق، ولم يُحملهُ على كشف اعوجاج القلب البشري وشرَّهُ العظيم إلا المحبة؛ لكي لا يبقى الإنسان في تلك الحال ولا ريب في أن الأفضل كشف ذلك الآن في يوم النعمة مما في يوم الدينونة حين لا مناص من قصاص كل الأثام المُعلنة والقضاء على الإنسان.
لاحظوا أيضًا أنهُ حين تعذَّر وجود القداسة الفعلية والطاعة في حياة رؤساء الدين المؤسس من الله أصبح آلة للخطية، والرياء، وتحريف الأفكار، وإماتة الضمير، والاستقامة في الجميع؛ لأن الأمور التي اعتبرها القوم كناية عن سلطان الله هَيجت بهم الرياء، والإثم، وأنشأت أيضًا عدم الإيمان؛ لأنهم رأوا أن الدِين مقترن بما تأباهُ العواطف البشرية، بل الضمير الطبيعي. فما أحزن تاريخ القلب الإنساني! نعم وكنيسة الله أيضًا التي قد جرت مجرى النظام اليهودي تمامًا، وانحطت مع انحطاط رؤسائها! تأملوا أيضًا كيف سطوة فساد السلطان الديني تُعمي أبصار الإنسان، وتُتلف فهمهُ الروحي. فأي شيء أوضح مما قالهُ الرب بهذا الصدد، غير أن الضمير الطبيعي يأتي الاعتراف بهذا الحق وهو: أن ما يدخل الفم لا يُنجس الإنسان، بل الذي يخرج منهُ؛ لأنهُ يصدر من القلب. فهذا أمر بسيط لا يفتقر لزيادة إيضاح. أما التلاميذ فلم يفهموا ذلك، بل طلبوا إيضاحًا؛ لان تقليدات الشيوخ كانت قد أعمت فهمهم الطبيعي، ففسد ذوقهم، اعوجَّت أفكارهم من طريقة الاحتجاج الذي أدعى بهِ أولئك الرؤساء بسلطانهم الكاذب، فلا عجب إذا كان الأمر كذلك. أَما نجد الآن كثيرين يعتقدون أن ما يدخل الفم يُنجس الإنسان، ومع ذلك هم سليمو النية وليس ذلك فقط، بل يذهبون إلىَّ أنهم إذا أكلوا نوعًا من الطعام اليوم تنجسوا، ولكن إذا أكلوهُ غدًا فلا يتنجسون وما ذلك إلا لمحافظتهم على تقليد الشيوخ. فهذا ما فعلهُ التلاميذ حقيقة،ً وقد وبخهم الرب عليهِ قائلاً: فأنتم أيضًا هكذا غير فاهمين. فنرى هنا قضاء السيد على أمور كثيرة تضبط النفوس في العبودية على أنها نفوس مخلصة بسيطة الطوبة كالتلاميذ.
24 ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، 25 لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. 26 وَكَانَتْ الامْرَأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً. فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. 27 وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا:«دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». 28 فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ:«نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَحْتَ الْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ الْبَنِينَ!». 29 فَقَالَ لَهَا:«لأَجْلِ هذِهِ الْكَلِمَةِ، اذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنِ ابْنَتِكِ». 30 فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ الشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَالابْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْفِرَاشِ. (عدد 24-30).
ولنلتفت الآن إلى إعلان محبة الله الفائقة بكلمات الرب للمرأة البائسة، فنراهُ يُصادق على حقوق اليهود وامتيازتهم أولاً، ثم نرى أن حق الله الجوهري المُعلن النعمة والمحبة يعلو تلك الامتيازات حين الاحتياج ويسمو عليها لا نحو أولاد الموعد، بل نحو أمة حُسِبتْ تحت اللعنة نحو امرأة من البلاد اشتهرت بصلابة الأعناق. فقد سمت محبة الله على كل الحواجز التي وضعها الإنسان الأثيم وعلى نظام الدين اليهودي المحصور بالأمة الإسرائيلية، بل على النظام الذي سنَّهُ هو نفسهُ وقد أُبطل الآن برفض المسيح.
فانطلق الرب إلى تخوم صور وصيداء حيث شاء الاعتزال برهة، غير أن الصلاح المقترن بالقوة قلما يُكتم عن أبصار البشر المصابين بالبلايا التي تخومهم إليهِ، فإن الحاجة تُنبه النفس وتجلو عن عينها غياهب الظلام. فما وطأت أقدام السيد تلك الأرض حتى وافتهُ امرأة بائسة ابنتها منابة بالروح الشرير وقد شعرت بشقاء حالها وآمنت بسلطانهِ. فإن ما ألمَّ بها من شدة البؤس حملها على الرجاء بجودتهِ فأتت إليهِ لتسترحمهُ، أما يسوع فاستمر محافظًا على المواعيد المعطاة من الله لليهود وأجاب جوابًا مبنيًا على حقوق شعب الله أنهُ لا يستطيع أن يأخذ خبز البنين ويطرحهُ للكلاب. لاحظوا أن المرأة نفسها كانت من الأمة المحسوبة تحت اللعنة. فإذا نظرنا إلى سياسة الله ومعاملاتهِ لإسرائيل ما رأينا وعدًا واحدًا لتلك المرأة. فلم يكن لها حق واحد تشترك بهِ مع شعب الله، فإنها لم تكن حسب اعتقاد اليهود والنظام الناموسي إلا بمنزلة الكلاب، ولكنها كانت من المحتاجين إلى رحمة الله وقوتهِ الموجودتين في شخص المسيح وهي أدركت ذلك بإيمانها ووثقت بهِ كل الوثوق.
هكذا هي الحال معنا دائمًا بحيث أن شعورنا العميق بحاجتنا الشديدة، والإيمان بجودة الرب، وقوتهِ يحملان على اللجاجة، والمواظبة في الصلاة، كما جرى لأولئك القوم الذين حملوا المفلوج حين زحمتهُ الجموع، غير أنهُ يوجد شيء آخر في قلب تلك المرأة عدا الثقة الناشئة فيهِ بنعمة الله وذلك أنها اعترفت بحقوق اليهود وأنهم شعب الله وأقرَّت أنها بمنزلة الكلاب بالنسبة إليهم وهذا هو الحق، ومع ذلك ألحَّت في طلبها لشعورها بأنها وإن كانت من تلك الرتبة فنعمة الله كافية لمن ليست لهم تلك الحقوق، فقالت: والكلاب أيضًا تأكل من فتات البنين فقد أقرَّت بحقيقة حالها، ولكنها اعترفت أيضًا بطبيعة الله، وآمنت بمحبتهِ نحو أولئك الذين ليس لهم حقوق ولا مواعيد، ووثقت بإعلان الله بيسوع الغير المحصور في السُنن الدينية القديمة والفائق على نظاماتها وفروضها. وقد علمت أن الله صالح واعتقدت أن الدالة إليهِ إنما هي الحاجة والشقاء المُلم بها. أيستطيع المسيح أن يُجيبها سلبًا ويقول لها: أن الله ليس بصالح، وجواد كما تزعمين. كلا، حاشا من ذلك. فإن جوابًا كهذا لا يكون مطلقًا للحقيقة.
فلا ريب في أن هذا إيمان عظيم، وهو إيمان يعترف بشقائنا، وأن لا حق لنا بشيء، بل هو إيمان يعتقد بمحبة الله الظاهرة ظهورًا صريحًا بيسوع بدون وعد، ولكنها مُعلنة كل الإعلان، فلا يستطيع الله أن يُنكر نفسهُ ويقول: كلا لست أنا محبة. على أن لا حق لنا أن نترصد إجراء هذه المحبة نحونا، ولكننا نثق بأنَ إذا أتينا يسوع مُحركين على ذلك بالحاجة والافتقار، فلابد أن نجد جودة تامة ومحبة لإبرائنا من مرض الخطية، نعم، وكلما يلزم لاحتياجاتنا العديدة. ولنذكر أن الحاجة الحقيقية لا تنفك عن المواظبة؛ لأنها لا تستطيع الاستغناء عن القوة المُعلنة بالمسيح ولا عن الخلاص الذي أتى لنا بهِ. فلا خلاص إلا بالمعونة الحالة علينا بهِ في ضعفنا. فقوة الله إنما هي ينبوع رجائنا وإيماننا. فإذا سُئلنا: كيف نعلم ما في قلب الله؟ أجبنا: أنهُ مُعلن إعلانًا صريحًا بالمسيح. فمن وضع في قلب الله أن يُرسل ابنهُ لخلاصنا؟ ومَنْ وضع في قلب الابن أن يأتي ويحتمل كل الآلام لأجلنا؟ أ إنسان فعل ذلك؟ كلا؛ لأن فكرًا كهذا لم يخطر على بال إنسان، بل أن قلب الله إنما كان الينبوع، فنحن نؤمن بهذه المحبة، وبما فعلهُ يسوع وأكملهُ على الصليب، لكي يُبطل الخطية بذبيحة نفسهِ ونعلم قيمة ذلك وأهميتهُ، وفضلاً عن ذلك هو يفعل كل شيء حسنًا فإنهُ يجعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون.
فنعمة الله قد وضحت كل الوضوح نحو المرأة البائسة التي لم يكن لها حق ببركة ولا بوعد، فإنها كانت ابنة كنعان المقضي عليها، غير أن الإيمان يبلغ إلى قلب الله المعُلن بيسوع، وكذلك عين الله تبلغ أعماق قلب الإنسان. ومن ثمَّ يلتقي قلب الله مع قلب الإنسان في الشعور بأن الإنسان فاسد كل الفساد، وأن ليس لهُ حق واحد فيعترف بحالتهِ الحقيقية، ويُسلم نفسهُ لجودة الله الكاملة.
31 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ الْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ الْمُدُنِ الْعَشْرِ. 32 وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. 33 فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ، 34 وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ:«إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. 35 وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيمًا. 36 فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيرًا. 37 وَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنًا! جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ». (عدد 31-37).
ثم خرج الرب من تخوم صور وصيداء وعاد إلى الجليل حيث وجد نفسهُ في وسط بني إسرائيل، ولكن كما قلنا: كان الشعب قد رفضهُ حقيقةً، فكان عالمًا أن ذلك الشعب المحبوب قد هلك، ولا يتوقع لهُ شيئًا إلا الخراب والدمار. فأتوهُ بأصم أعقد وطلبوا منهُ: أن يضع يدهُ عليهِ ليشفيهِ، فأخذه من بين الجمع على ناحية، ووضع أصابعهُ في أُذُنيهِ، وتفل ولمس لسانهُ ثم رفع نظرهُ نحو السماء فإن القوة لا تنفك عنه،ُ غير أن الحزن قد نقل قلبهِ؛ لأن الشعب كان بالحقيقة أصم عن سماع صوت الراعي الصالح، ولسانهُ مربوطًا وغير قادر على تسبيح الله. فأنات يسوع إنما تُمثل شعورهُ، كما أن حال ذلك الإنسان البائس تُمثل شعب الله المحبوب وكان يستطيع أن يعمل لهم لو انتبهوا وأتوا إليهِ العمل نفسهُ الذي عملهُ لذلك الرجل الأصم الأعقد. ليتهم انتبهوا وتمتعوا بمحبة ذلك الذي مشوراتهُ لن تتغير، وقد اتجهت نحوهم، واستقرت عليهم رغمًا عن معاملتهم السيئة لهُ. لا جُرم أن الرب كان بملء محبتهِ هنالك وقد تصرف وفقًا لتلك المحبة وتلك الأنات. فتطلع نحو السماء ينبوع المحبة والقوة حضورهُ بعد على أنهُ وإن كان ليس في طاقتهم قتلهُ لو لم يُسلِّم نفسهُ طوعًا، غير أن الزمان كان لابد أن يأتي حين يبذل نفسهُ إتمامًا لعمل الفداء. فقد أوضح على الدوام إلى أن حانت الساعة المعينة أنهُ إله الجودة والصلاح نحو المصابين وكل مَنْ كان في حاجة وافتقار.
فإذا تأملنا بنظر المسيح نحو السماء وشاهدنا أنة قلبهِ عند معاينتهِ صمم الشعب عن سماع صوت الله، وانعقاد لسانهِ عن تمجيدهِ، وإذا أمعنا النظر بشعور قلبهِ المطابق عواطف السماء الظاهرة بمعاملتهِ للقوم القساة الصلبي الأعناق، رأينا مشهدًا مؤثرًا جدًا. فإنهُ وجد هنالك حقيقة المحبة المرفوضة من البشر وسُرَّ بالعواطف السائدة في السماء التي مَّثلها بحياتهِ على هذه الأرض المنكودة. فانفتحت أُذنا الأصم وانحلَّ لسانهُ. وأما الشعب فتأثروا تأثرًا وقتيًا، وأخذوا يشيعون ما فعلهُ يسوع قائلين: أنهُ عمل كل شيء حسنًا، جعل الصم يسمعون، والخُرس يتكلمون. فأعمال الرب تفتح الأذان، وتحمل القلوب الوضيعة على تسبيح الله والاعتراف بمحبتهِ، لكن وا أسفاه! ما أكثر الذين يصمون آذانهم عن سماع إله المحبة. فما هم إلا كالصل الأصم يسد أُذنهُ. الذي لا يستمع إلى صوت الحواة الراقين رُقي حكيم (مزمور 4:58).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:35 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع

الأصحاح الثامن 

1 فِي تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 2 «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. 3 وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي الطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». 4 فَأَجَابَهُ تَلاَمِيذُهُ:«مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هؤُلاَءِ خُبْزًا هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟» 5 فَسَأَلَهُمْ:«كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْخُبْزِ؟» فَقَالُوا:«سَبْعَةٌ». 6 فَأَمَرَ الْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى الأَرْضِ، وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى الْجَمْعِ. 7 وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ السَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هذِهِ أَيْضًا. 8 فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاَتِ الْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلاَل. 9 وَكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ. 10 وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ السَّفِينَةَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ. (عدد 1-10).
إن يسوع ما فتئ يُظهر جودةٍ إلهية ذلك أمر جوهري جدير بالملاحظة في هذا الجزء من الإنجيل، فكان قد أعطى الجياع طعامًا، فما ذلك إلا آية بينة عن حضور يهوه، كما قد رأينا في ( أصحاح 35:6-44)؛ لأنه كان ينبغي بحسب النبوات أنهُ يفعل ذلك عند حضورهِ في وسط شعبهِ، ونرى هناك في المرة الأولى أنهُ امتحن إيمان تلاميذهُ وقصد أن يُدربهم على الاتكال التام على جودة إله إسرائيل القادر أن يعول شعبهُ البائسين، كما فعل بعد خروجهم من مصر، إذ قال لهم: أعطوهم ليأكلوا، وأما هنا فدعاهم إليهِ، وأخبرهم بشفقتهِ على الجمع، وأنهُ لا يريد أن يُصرفهم صائمين إلى بيوتهم؛ لئلا يخوروا في الطريق. ولا يُخفى أن عدد سبعة إنما يدلُّ على الكمال في الأمور الروحية. فشفقة السيد حملتهُ على الاهتمام بحاجة البائسين، وأما التلاميذ فلم يهتموا إلا بالوسائط البشرية المنظورة لإشباع أنفسهم. ومثلهم مثلنا بحيث ننسى جودة إلهنا وأوقاتًا كثيرة نجعل دائرة نظرنا الضيقة قياسًا على قدرتهِ كأنهُ لا يستطيع أن يمنحنا أكثر مما نشاهدهُ عيانًا في الوقت الحاضر، ولكنه يجب علينا أن نثق فيهِ كالقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تفعل فينا (أفسس 20:3). حتى في احتياجاتنا الجسدية يُريد أن يُبرهن اعتناءهُ الأبوي بنا، ويمكنهُ أن يُبارك القليل الموجود عندنا ويجعلهُ كافيًا، أو بالأحرى يُنمينا روحيًا حتى نكتفي بما عندنا، ولو استحسن أن يتركنا على حالة الفقر.
11 فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. 12 فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ:«لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً!» (عدد 11-12).
ثم غادر يسوع الجموع وانصرف إلى نواحي دلمانوثة. وهنالك طلب منهُ الفريسيون آية من السماء، على أنهم كانوا قد شاهدوا من آياتهِ الباهرة ما كان كافيًا لإقناعهم، لكن الغير المؤمن لا يقنع ولا يكتفي فلم يجب طلبهم؛ لان زمان الامتحان كان قد انقضى وقد فاتت الفرصة فتركهم وانطلق، ولكن لاحظوا عواطف قلبهِ نحو ذلك الجيل الملتوي، فقد تنهد بروحهِ قائلاً: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ فإن النهاية كانت قد أتت أدبيًا فلا فائدة من إعطاء أدلة لقلوب قد صممت على الجحود. على أنهُ له المجد كان مُفعمًا من الصبر العجيب، والمحبة، والشفقة القصوى، والحزن عند تأملهِ بعدم إيمان رؤساء الشعب وقواده. فكلما كانت تزداد قلوبهم صلابة، كانت تنجلي تلك الصفات جلاءً صريحًا، ولكن عبثًا تجترح الآيات لقلوب عوَّلت على الكُفر بالإله المحسن إليها، وفضلاً عن ذلك لا يليق بجلالهِ تعالى إعطاء آيات لقوم أبوا قبولهُ. فإنهُ لو فعل ذلك كان كمن يُلقي دررهُ أمام الخنازير.
13 ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَدَخَلَ أَيْضًا السَّفِينَةَ وَمَضَى إِلَى الْعَبْرِ. 14 وَنَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزًا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ إِلاَّ رَغِيفٌ وَاحِدٌ. 15 وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «انْظُرُوا! وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَخَمِيرِ هِيرُودُسَ» 16 فَفَكَّرُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لَيْسَ عِنْدَنَا خُبْزٌ». 17 فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ أَنْ لَيْسَ عِنْدَكُمْ خُبْزٌ؟ أَلاَ تَشْعُرُونَ بَعْدُ وَلاَ تَفْهَمُونَ؟ أَحَتَّى الآنَ قُلُوبُكُمْ غَلِيظَةٌ؟ 18 أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ؟ 19 حِينَ كَسَّرْتُ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ لِلْخَمْسَةِ الآلاَفِ، كَمْ قُفَّةً مَمْلُوَّةً كِسَرًا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا لَهُ:«اثْنَتَيْ عَشْرَةَ». 20 «وَحِينَ السَّبْعَةِ لِلأَرْبَعَةِ الآلاَفِ، كَمْ سَلَّ كِسَرٍ مَمْلُوًّا رَفَعْتُمْ؟» قَالُوا:«سَبْعَةً». 21 فَقَالَ لَهُمْ:«كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ؟» (عدد 13-21).
نرى هنا أن التلاميذ أنفسهم كانوا عميانًا أيضًا، ولكن ليس عن تعمد بل بالفعل والواقع. فإن يسوع حذرهم من خمير الفريسيين وخمير هيرودس، أما هم فكانوا قد نسوا أن يأخذوا خبزًا. ومن ضعف إيمانهم أخذوا يفتكرون أن الرب يلومهم لأنهم ما أخذوا زادًا كافيًا للسفر، فيا للأسف! كيف أن التلاميذ أنفسهم لم ينتبهوا لقدرة مُعَلمهم الظاهرة في اجتراح المعجزات؟ وكيف أنهُ أشبع آلافًا ببضعة أرغفة؟ فوبخهم الرب بشدة قائلاً: ألا تشعرون بعد ولا تفهمون أحتى الآن قلوبكم غليظة؟ ألكم أعين ولا تبصرون، ولكم آذان ولا تسمعون ولا تذكرون؟ فكأنهم تقسوا بنظر تلك المعجزات الكثيرة ولم يفهموا شيئًا من معجزتي المسيح بتكثير الخبز، فإنهُ إنما يقصد أن يُحذرهم من تعليم الفريسيين والهيرودسيين.
22 وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ، 23 فَأَخَذَ بِيَدِ الأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ: هَلْ أَبْصَرَ شَيْئًا؟ 24 فَتَطَلَّعَ وَقَالَ:«أُبْصِرُ النَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». 25 ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضًا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحًا وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيًّا. 26 فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً:«لاَ تَدْخُلِ الْقَرْيَةَ، وَلاَ تَقُلْ لأَحَدٍ فِي الْقَرْيَةِ». (عدد 22-26).
فجاء إلى بيت صيدا وهي واحدة من المدن التي نادى بالويل لها أنها ما نابت عند مشاهدة أعمال القوة التي صُنعت فيها. فقدموا إليهِ أعمى وطلبوا إليهِ أن يلمسهُ. فلم يتأخر عن أن يُلبي طلبتهم، غير أنهُ اعتزل بالأعمى المسكين عن الجمع إلى خارج القرية، وتفل في عينيهِ، ووضع يديهِ عليهِ، فأتاهُ البصر شيئًا فشيئًا. ونستفيد من هذه الحادثة أن مُلامسة شخص المسيح تُعطي بصرًا للعميان تزيدهُ أيضًا. وحالة الأعمى تُمثل حالة التلاميذ تمامًا بالمقابلة مع إسرائيل على وجه العموم، بحيث أن المسيح كان قد أفرزهم عن الجمع ولمسهم. ونتج من مُلامستهم إياهُ أنهم أخذوا ينظرون نظرًا مُلبدًا فكأنهم رأوا الناس كأشجار يمشون. فقد أحبوا الرب بالحقيقة، لكن العوائد اليهودية غشت أبصارهم وحالت دون إدراكهم مجدهُ إدراكًا جوهريًا. نعم أنهم آمنوا بكونهِ مسيا الموعود به، غير أن أميال قلوبهم كانت متجهة إلى أشياء أخرى، كانوا بالنعمة قد حصلوا على التعلق بشخص السيد معلمهم، لكنهم لم يدركوا مجدهُ الإلهي الذي كان كأنه محجوب في أُقنومهِ، مع أنهُ كان مُعلنًا بكلماتهِ وأعمالهِ. فكانوا قد تركوا كل شيء ليتبعوهُ، ولكن كان يعوزهم الفهم الروحي بعد الإيمان، فإنهُ كان لهم إيمان مع أنهُ كان ضعيفًا نظير بصر الأعمى بعد اللمسة الأولى، غير أن عظمة صبرهِ تضارع سلطانهُ، فإنهُ مثل عن حالة قلب التلاميذ ومثل أيضًا عن جودتهِ القصوى التي لم تترك الأعمى حتى أبصر بصرًا جليًا، فإنهُ لم يتوقف عن العمل حتى أكملهُ وهكذا عمل مع التلاميذ روحيًا؛ لأنه عاد بعد قيامتهِ ونفخ فيهم وفتح أذهانهم؛ ليفهموا الكتب، ثم أرسل لهم الروح القدس من السماء؛ ليرشدهم إلى جميع الحق فابصروا حينئذٍ جليًا. ونرى مقابلة بين التلاميذ والشعب، حيث أن التلاميذ كانوا معتزلين مع المسيح، وما كانوا عميانًا عن قصد، وأما الشعب فلم يُريدوا أن يبصروا، بل فضَّلوا العمى والظلمة على البصر والنور.
ثم نرى أن يسوع نهى الأعمى عن الد*** إلى المدينة، أو أن يقول لأحد شيئًا عما جرى له، ذلك ليس فقط لأنه لم يطلب مجد الناس الفارغ فقط، بل لأنهُ أراد مُجَانبة جمهور الشعب الآتي للفُرجة فقط، وذلك إنما يعوق عملهُ الحقيقي الذي قصد أن يعملهُ في قلوب الناس وضمائرهم، ولكنهُ يُظهر أيضًا أن زمان الشهادة في إسرائيل قد انتهى، وسيظهر ذلك أكثر جليًا في الفصل القادم.
27 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً لَهُمْ: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» 28 فَأَجَابُوا:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 29 فَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ الْمَسِيحُ!» 30 فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ. (عدد 27-30).
قد تنحى الرب إلى حدود أرض إسرائيل القصوى، وسأل تلاميذهُ قائلاً: مَنْ يقول الناس أني أنا؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون واحد من الأنبياء. تلك آراء مختلفة، ولكن خالية من الإيمان. ثم سألهم: وأنإ مَنْ تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: أنتَ المسيح. يجب أن نلاحظ أن مرقس إنما يدرج إقرار بطرس أن يسوع هو المسيح فقط، ولا يذكر انهُ ابن الله الحي ولا أن الآب قد أعلن ذلك لهُ إعلانًا خصوصيًا كما قد رأينا في (مَتَّى 13:16)، ولا نرى هنا شيئًا من كلام الرب في شأن الكنيسة التي كان مزمعًا أن يبنيها على ذاتهِ بعد قيامتهِ من الأموات، فالواضح أن مرقس إنما أُلهم بأن يذكر ما يدل على إيمان بطرس الشخصي فقط إعلان الآب. ثم انتهرهم الرب ونهاهم نهيًا جازمًا كي لا يقولوا لأحد عنهُ. ذلك برهان جلي على أن الشهادة في وسط الشعب كانت قد انقضت كل الانقضاء، على انهُ كان لم يزل المسيح بعينيهِ، لكنهُ كان مرفوضًا عند الشعب الذي كان عدوًا لنفسهِ برفضهِ نعمة الله العجيبة.
31 وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. 32 وَقَالَ الْقَوْلَ عَلاَنِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. 33 فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلاَمِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا ِللهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». (عدد 31-33).
ثم بدأ يُعلَّم تلاميذهُ جهارًا بأنه ينبغي أن يتألم كابن الإنسان. وما ذلك إلا مقام ولقب ساميان كل السمو بالنظر لاتساع سلطانهِ وعظمة السيادة المنوطة بهِ فإن كل الأشياء ستخضع لسلطانهِ كابن الإنسان، ولكن كان يجب أن يتألم ويموت ويقوم من بين الأموات لينبوا كابن الإنسان منزلتهُ في المجد. فكانت الضرورة أن يتم الفداء وأن يدخل الإنسان إلى مقام جديد وإلى حالة حديثة لم يكن عليها فيما سلف حتى في طهارتهِ الأصلية، أما مقام المسيح كمسيا فكان قد عزل الآن جانبًا ودخل هو منزلة أسمى حيث الأشياء العتيقة كانت قد تُركت وراء الموت وكل مَنْ تأسس على عمل المسيح وموتهِ تبوأ رتبة جديدة وأبدية.
فالموضوع هنا يتعلق بالأكثر على آلام المسيح فقد وضع الصليب أمام تلاميذه، ولكنهُ يتكلم دائمًا عن الموت والقيامة. وقال هذا القول علانيةً فكان ذلك عثرة لبطرس؛ لأنهُ لم يُرد أن مُعلمهُ يُهان لدى أبصار الجمهور، غير أن الصليب إنما هو نصيب الذين يختارون إتباع يسوع. أما بطرس فقد وضع بهذا القول عثرة في سبيل التلاميذ، فعلم الرب ذلك فالتفت نحو التلاميذ ووبخ بطرس ذلك الذي بنعمة الله اعترف بهِ منذ برهة، وقال لهُ: «اذهب عني يا شيطان؛ لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». فنرى بهذا القول درسًا خطيرًا، بل أكثر من درس واحد. أولاً- أن المسيحي يجب أن يفهم كل الفهم أن طريق الخلاص والسبيل المؤدي إلى المجد والسماء الذي سلك فيهِ المسيح نفسهُ ويُريد أننا نتعلمهُ فيه،ِ إنما هو أن نُنكر أنفسنا ونتألم ونغلب. ثانيًا- لنتعلم من ذلك أنهُ يمكن أن يكون للمسيحي إيمان حقيقي، وأن يكون مُتعلمًا من الله كما كان بطرس بدون أن يخضع جسدهُ ويقضي عليهِ حتى يكون قادرًا على السلوك في السبيل الذي يقودهُ إليهِ هذا الحق الإلهي. فعلينا أن نذكر هذا الأمر المهم وهو أن الإنسان يستطيع أن يكون مخلصًا بدون أن يعرف نفسهُ حق المعرفة. فمقام المسيح الجديد الغير المُنفك عن الأمجاد السماوية والمشترك بها الإنسان الساقط الممتاز بالأفضلية والسمو على كل الأشياء يتحد كل الاتحاد بالصليب ويجعل حملهُ أمرًا ضروريًا لكل مؤمن، ولكن حين يُعلن الرب نتيجتهُ الفعلية لا يطيق الإنسان احتمالها.
فما أكثر القلوب التي تُصدق عليها هذه الحالة! تلك قلوب لا ريب بخلوصها، ولكن ليس لها الشجاعة الروحية لقبول العواقب المترتبة على الحق المؤمنة بهِ. فانظروا الفرق في حال بولس عندما تَقوى بالروح القدس والإيمان وقال: «لكي أعرفهُ (أي المسيح) وقوة قيامتهِ وشركة آلامهِ متشبهًا بموتهِ» (فيلبي 10:3). فقد كانت قوة الروح القدس حالَّة عليهِ فحمل دائمًا في جسدهِ إماتة الرب يسوع لكي تُظهر حياة سيدهُ في جسدهِ. فيا لغبطة ذلك الإناء المصطفى‍‍! فإنهُ كان يُفضل على الدوام أن يحتمل كل آلم على عدم اتباع سيدهِ المجيد بكل قلبهِ، وعلى عدم الاعتراف باسمهِ مهما كانت العواقب المترتبة على ذلك، وبعد أن يسير بنعمة الله بأمانة ينال جائزة دعوتهِ السماوية.
34 وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. 35 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. 36 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ 37 أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ 38 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ». (عدد 34-38).
أما الرب فلا يكتم العواقب ولا يُريد إخفاءها. فقد حذر الجموع ويُحذرنا أيضًا بأنَ إذا شئنا أن نكون معهُ وأن نتبعهُ، وجب أن نُنكر أنفسنا ونحمل صليبنا. فعلينا أن نقبل كلام الرب فلكي نكون معهُ إلى الأبد، وجب علينا أن نتبعهُ وإذا تبعناهُ وجدنا في الطريق كل ما وجدهُ هو نفسهُ. على أن ذلك ليس بمسألة آلام تكفيرية كالتي احتملها من يد الله عن الخطية، بل احتمالهُ من يد الإنسان مقاومة الخطاة ومضادَّتهم والعار والإهانة حتى الموت نفسهِ. أما نحن فلا نعرف حق المعرفة ما هو التألُّم لأجل اسم يسوع، ولكن اذكروا أيها المسيحيون ما يقولهُ الرب: أولاً- مَنْ أراد أن يأتي وراءي فلينكر نفسهُ، فإنهُ يمكن لنا كل يوم أن نُنكر ذواتنا في الأشياء العالمية التي تلذُّ لنا لذة جسدية، ثم إذا كنا معتادين على نكران الذات نستطيع بنعمة الله أن نقبل العار والإهانة من أجل اسم المسيح. فإن مَنْ أراد أن يُخلص نفسهُ، أي مَنْ حمل الصليب وراء المسيح المرفوض يُهلكها، ومَنْ يُهلك نفسهُ من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يُخلصها؛ لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلهُ وخسر نفسهُ. أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسهِ. فلا نرى سوى طريقين. أي طريق العالم وطريق المسيح، ولكل منهما ما يتصف بهِ، ومَنْ سلكهُ يصل إلى نهاية لا محالة.
ولكنهُ لا يُخفى أن ما يُربي الجسد ومحبة الذات، هو ذلك النظام العظيم المدعو العالم. فإن الإنسان يحب أن يكون شيئًا عظيمًا في عيني نفسهُ ويصبو لأن ينسى الله ويجعل نفسهُ سعيدًا ومغبوطًا إن أمكن بدونهِ تعالى. فهكذا فعل قايين حين طُرد من حضرة الله بعدما قتل هابيل فقد فرَّ من أمام وجه القدير بعد أن بقى عليهِ قضاء حرمهُ من رجاء العودة إلى حضرة الله والتمتع بشركتهِ الطاهرة؛ لأن الله جعلهُ تائهًا وهاربًا على سطح الأرض (ذلك رمز مؤثر يُمثل حال اليهود في هذا الحين بعد أن أماتوا الرب يسوع أخاهم حسب الجسد)، غير أن قايين لم يشاء أن يظل بائسًا تائهًا. وعلى كلٍ لم يُرد أن يترك عائلتهُ في حال كتلك، بل أحب النجاة من بؤسهِ وشقاء حالهِ، فبنى لهُ مدينة في أرض نود تعني في اللغة العبرانية تائهًا، فقد رغب في أن تقطن عائلتهُ البلاد التي جعلهُ الله بها تائهًا فسمى المدينة على اسم ابنهِ، كما يفعل عظماء هذا العالم فهنالك نشأ مخترعو الآلات الموسيقية وآلات النحاس والحديد وهنالك حشدت وارتكمت ثروة الأجيال الحاضرة ووفرت القنية والمواشي فهذا هو العالم.
لا جُرم أن قلب الإنسان بعد انفصالهِ عن الله حاول أن يجعل الأرض التي قد ابتعد بها عنهُ تعالى موطنًا سارًا وبَهِجًا لنفسهِ حسب الإمكان، وقد استخدم لنوال هذه الغاية عطايا الله وخليقتهُ للاستغناء عنهُ. ولقائل أن يقول: أن لا ضرر باستعمال هذه الأشياء. أَجبنا: أن هذا مُسَلم، غير أن هذه ليست هي المسألة الجوهرية، فهذه الأمور حسنة؛ لأنها خليقتهُ تعالى فقد قيل على سبيل الرمز والإشارة أن نتمتع بالترانيم الموسيقية في السماء أيضًا، ولكنها لا تُستعمل هنالك لتسلية الأفكار واللهو بدون الله. فالمسألة إنما تتعلق على كيفية استعمال تلك الأشياء مثلاً لا ضرر بالقوة، بل بالأسلوب الذي نستعملها فيهِ فإن الإنسان يستطيع أن يضر بها قريبهُ. ألا نرى أن العالم الذي لا يعرف الله يستعمل كل أنواع الملاهي والمسرات للتنعم بها خلوًا من الله؟ فإن القلب الفارغ من الله يُحاول أن يُسلي نفسهُ فيستخدم لذلك كل الأشياء المنظورة والمسموعة والمخترعة كالملاعب والمراقص والموسيقى وكل نوع من وسائط الطرب والسرور، وذلك لأنهُ خالٍ من الله ومُفعم بالهموم والأحزان ولا يُشبعهُ شيء. ولابد أن يجد نفسهُ بعد بضعة أعوام حافظ بها على نشاطهِ الطبيعي وشهواتهِ الجسدية متعبًا وكليلاً، وبعد أن يكون قد امتحن كل شيء يقول مع سليمان المختبر تلك الأمور: باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح، فإن الله قد أُهمل والنفس هلكت.
على أن الملاهي تبعد أيضًا المسيحي عن الله وتفني شركتهُ معهُ تعالى، فكل ما في العالم إنما هو: شهوة الجسد، وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوتهُ وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد. فالشيطان الذي أضلَّ حواء بهذه الأشياء هو إله هذا العالم، وقد حاول أن يغرِ مخلصنا أيضًا بهذه الأمور على أنهُ شكرًا لله لم ينجح بهذه القمة، ولكنهُ كثيرًا ما ينجح بدون تعب جزيل في خداع قلوب البشر عمومًا حتى المسيحيين، وأن يجعل لمسرات هذا العالم سلطةً على نفوسهم أكثر مما للمسيح نفسهِ ولمحبتهِ التي برهنها لنا بموتهِ. فهكذا كانت الحالة مع بطرس المغرور، على أنهُ لم يكن قد قبل الروح القدس حينئذٍ، غير أن هذا لا يُغير طبيعة أشواقهِ؛ لأنهُ كان يصبوا إلى المجد في هذا العالم تحت رداء محبة السيد. فتأملوا هنا أيضًا بمحبة يسوع لتلاميذه،ِ وما أعظم عنايتهُ الرحيمة بهم! فإنهُ التفت ونظر جسامة العثرة التي وضعها بطرس أمام التلاميذ فوبخهُ بصرامة حسب استحقاق كلامهِ. ثم وضع أمام التلاميذ مبدائين: أولاً- أن قيمة النفس تفوق على سائر الأشياء وأن الإنسان لا يستطيع أن يفديها بشيء. وثانيًا- أن يسوع كان مزمعًا أن يدخل المجد وأن كل من استحى بهِ في هذا العالم الفاسد حيث قد رُفض يستحي بهِ ابن الإنسان حين يأتي في مجد أبيهِ مع الملائكة القديسين.ويا للخسائر الباهظة التي ألمت بكنيسة الله من حين تغافلت عن سرعة مجيء سيدها ورفضت حمل الصليب وأخذت تتهور في طريق العالم!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:37 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع

الأصحاح التاسع 

1 وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ».2 وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3 وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ. 4 وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. 5 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ:«يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». 6 لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. 7 وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». 8 فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ.9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10 فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ:«مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» 11 فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ:«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 12 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. 13 لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».(عدد 1-13).
ثم أن الرب وجد الفرصة مُلائمة لإعلان مجدهِ الشخصي، وأن يُوطد إيمان التلاميذ ويُبين أن حضورهُ بالنعمة كمسيا في وسط إسرائيل كان مزمعًا أن ينتهي، وأن مجد ابن الإنسان الجديد ومجد خاصتهِ كان مزمعًا أن يتولى ويسود، على أن الضرورة تقضي بالانتظار حينًا حتى يجمع كل شُركائهِ في الميراث معًا. وقال لهم: «الحق أقول لكم أن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة». ثم بعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبلٍ عالٍ مُنفردين وحدهم وتغيرَّت هيئتهُ قدامهم وصارت ثيابهِ تلمع بيضاء جدًا كالثلج… الخ. فكان بطرس ويعقوب ويوحنا القوم الذين أشار إليهم الرب أنهم لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة والتجلي هو إتيان ملكوت الله بقوةٍ. ولنا على ذلك شهادة بطرس الرسول نفسهُ إذ قال: «لأننا لم نتبع خرافات مُصنَّعة إذ عرَّفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئهِ، بل قد كنا معاينين عظمتهُ؛ لأنهُ أخذ من الآب كرامةً ومجدًا إذ أقبل عليهِ صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُررت بهِ، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معهُ في الجبل المقدس» (بطرس الثانية 16:1-18). فهذه هي كلمات الرسول حين قصَّ ما حدث لهُ رأى ذلك المشهد العجيب على جبل التجلي. فنتعلم من هذه الحادثة ما هو ذلك الملكوت المتعلق بظهورهِ على الأرض؛ لأنهم كانوا حينئذٍ على الأرض لا في السماء، أما السحابة اللامعة التي دخلوا فيها وأتى منها صوت الله فإنما هي كناية عن مسكن الله، ويجب أن نُلاحظ أن الرب قد أشار إلى حادثة التجلي العتيد أن يحصل. بمرأى البعض لم يذكر مجيئهِ بمجد أبيهِ مع الملائكة القديسين، بل قال: «حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوةٍ». ثم نرى أن الملكوت إنما أتى بقوة لنظر أولئك الثلاثة فقط ليس للعالم ولا لباقي التلاميذ، ثم جعلهُ الموت حدَّا لرؤيتهم التجلي لا يقتضي مرور زمان طويل؛ لأن الموت يُنظر إليهِ في الكتاب كقريب جدًا.
فيا لها من امتيازات وعطايا يتمتع بها الإنسان المائت الأثيم! بأن يسمح له بالتفرُّس بابن الله في المجد وأن الله في المجد، وأن يظهر معهُ مُمجدًا على الأرض، وأن يكون رفيقهُ ويتحادث معهُ وينال الشهادة بأنهُ قد أحب كمحبة الابن، وأن يكون معهُ ومثلهُ كإنسان في كل شيء لأجل مجدهِ الخاص. فما ذلك إلا بينة عجيبة على قيمة الفداء الذي أكملهُ. فكلما ازددنا قربًا منه اضطرمت عبادتنا فأن نكون معهُ كما سنكون في بيت أبينا. إن مشورة الله الأزلية قد شاءت أن نكون مع المسيح آدم الثاني والأخير، وأن نشترك معهُ في المجد وقد قدر علينا أن نكون مُشابهين صورة ابنهِ ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين. فلهذه الغاية صار إنسانًا ليكون المقدس والمُقدَّسين جميعهم من واحد؛ لكيلا يستحي أن يدعوهم أخوة. لا جُرم أن الأفضل لنا جدًا أن نكون رُفقاء يسوع في بيت الآب من أن نكون شُركاء ميراث مجدهِ لدى العالم، غير أن كِلا الأمرين ساميان وعجيبان لنا نحن الأثمة البائسون. فإيليا وموسى هما الآن في المجد نفسهِ ونحن سنكون مثلهُ عند ظهورهِ.
على أن الله لابد أن يُحافظ على مجد المسيح الشخصي في كل الأحوال، فلما طلب بطرس أن يصنع ثلاث مظال وأن يعامل المسيح وموسى وإيليا رجال التاريخ الإسرائيلي العظام معاملة واحدة فموسى وإيليا غابا عن الأبصار على الفور واعترف الآب بيسوع كابنهِ الحبيب. فلصوتهِ يجب أن نسمع، فكل ما قالهُ موسى وإيليا إنما هو الحق وكلمة الله وبواسطتهما نعرف أفكار الله، ولكنهما قد أديا الشهادة ليسوع لا لنفسيهما. فلا نتعلَّم مشيئة الله كل العلم إلا منهُ وحدهُ. فإنهُ هو الحق نفسهُ والنعمة والحق بهِ صارا. فإن موت المسيح وقيامتهِ وفداءهِ الكامل وضعت الإنسان في مركز جديد ومقامٍ سامٍ.
فالمؤمنون الذين عاشوا قبل إتيان السيد آمنوا بالمواعيد والنبوات المُنذرة بقدومهِ وقبلوها بالإيمان فغفرت خطاياهم المُرتكبة أثناء إمهال الله وصبرهِ، وقد عمل ذلك الله بالنظر إلى العمل الذي كان مزمعًا أن يُكملهُ فيما بعد؛ لأن أساس عملهِ لم يظهر حتى بعد موت المسيح، أما الآن فقد أُعلن بر الله وظهرت قوة الحياة الإلهية بقيامة يسوع المسيح. فأصبحت نسبنا مع الله نسبة جديدة وتمزَّق الحجاب فتيسر لنا الد*** إلى قدس الأقداس، وقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا لهُ من الناموس والأنبياء. هوذا موسى وإيليا ظاهران في المجد، غير أن المجد الذي ظهرا بهِ ليس من أثمار الناموس ولا النبوة، بل من نتائج عمل المسيح ولا يستطيع الإنسان أن يفوز بهِ إلا في حال القيامة. فإذًا قيامة المسيح ضرورية جدًا؛ لأنها قوة الحياة وراء الموت وبينة على أن الله قَبِلَ موت المسيح للتكفير عن الخطية. فالمجد الذي حصلهُ المسيح ابن الله للمؤمنين بذبيحتهِ، إنما هو متعلقات عالم آخر، على أنهُ كان يجب أن يكمل في هذا العالم. إذًا لا يختص هذا المجد إلا بالحال التي دخل فيها المسيح آدم الثاني بالقيامة وقد تأسست على الفداء الكامل. فهذه الحادثة وإن كانت مما تُقوي إيمان أعمدة الكنيسة الثلاثة المشار إليهم وتزيد فهمهم وإدراكهم، فقد حُتم عليهم أن لا يعلنوها قبل القيامة. فنهى يسوع التلاميذ عن أن يذيعوا شيئًا مما رأُوهُ حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات. فتأملوا بما قيل: فحفظوا الكلمة لأنفسهم، يتساءلون ما هو القيام من الأموات؟ فهذا مما يُزيد مسألة القيامة وضوحًا، فإن يسوع نهض وحدهُ من بين الأموات وترك سائر الناس في القبور. فقيامتهُ برهان على أن إله البر قَبِلَ ذبيحتهُ وفداءهُ كترضية كاملة قاطعة لبرّهِ وقداستهِ. وأنهُُ يقبل كل مَنْ آمن بهِ بحسب قيمة تلك الذبيحة.
ثم أن قيامة الأبرار تتم؛ لأن الله ارتضى بهم كل الارتضاء بواسطة عمل المسيح، فهؤلاء وحدهم يقومون عند إتيان السيد ليكونوا معهُ إلى الأبد. ولا يُخفى أن التلاميذ جميعهم آمنوا بأن الأموات سيُقامون؛ لأنهم تعلموا ذلك من الفريسيين فلم يكونوا مثل الصدوقيين، بل آمنوا أن اليهود جميعهم يقومون معًا. فمن ثمَّ لم يفهموا معنى القيامة من بين الأموات التي تفصل الأخبار عن الأشرار وتترك الفئة الأخيرة زمانًا في القبور. فالمسيح إنما هو باكورة قيامة القديسين لا الأشرار. والذين للمسيح سيقومون في مجيئهِ وسيتغير جسد تواضعهم إلى شبه جسدهِ المجيد، على أنهُ يوجد كثيرون من المسيحيين كالتلاميذ لا يفهمون كلام الرب في شأن القيامة من بين الأموات وإيمانهم كإيمان الفريسيين، فإنهم يعتقدون حقيقةً بوجود قيامة كما اعتقدت مرثا بأن الجميع سيقومون في اليوم الأخير. فالفرق الوحيد إنما هو أن مرثا واليهود اعتقدوا بقيامة الإسرائيليين فقط وهؤلاء المسيحيون يذهبون، إلى أن الأبرار والأشرار يقومون معًا.
لا جرم أن الجميع سيقومون، ولكن الإيمان الحقيقي بالمسيح يجعل الفرق بيننا. فإن الغير المؤمن يبقى في خطاياه وينهض للدينونة، أما المؤمن الحقيقي فينهض لقيامة الحياة ويقوم في المجد كما ورد في (كورنثوس الأولى 42:15-44). فحين يأتي السيد يُغير جسد تواضعنا إلى شبه جسدهِ المجيد. فالمسيح هو باكورة القيامة، ولكن لا قيامة الأشرار فلا نرى قط في كل فصول الكلمة الإلهية قيامة عامة للصالحين والأشرار، بل نرى في (لوقا 14:14) قيامة الأبرار مذكورة، وفي أصحاح (35:20) يُقال: «ولكن حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات». وذلك يُطابق ما قيل في (كورنثوس الأولى أصحاح 15): «كل واحد في رُتبتهِ المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئهِ».
وهكذا ورد في (تسالونيكي الأولى أصحاح 16:4): «والأموات في المسيح سيقومون أولاً». فالبعض يقتبسون الآيات الواردة في (مَتَّى 31:25-46) إثباتًا لاعتقادهم بقيامة عامة، غير أن المسألة في هذه العبارة لا تعلُّق لها بالقيامة ولا بالأجساد المُقامة والدينونة المذكورة فليست بدينونة عامة، بل دينونة الأُمم على الأرض أولئك الذين ستُرسل لهم بشارة أبدية، كما نرى في (رؤيا 6:14) فلا تُذكر في هذا الأصحاح فئتان من الناس فقط، بل ثُلث وهي الغنم والجداء وأخوة الديان. فمبدأ الدينونة هنا ليس بمبدأ دينونة عامة بحيث أن القضاء يجري بحسب الكيفية التي قبلوا بها أخوة الديان واعتبروهم حينما يُنادون بالبشارة الأبدية، أما مبادئ دينونة الأُمم العامة فمُفسرة في (رومية 4:2-11) وهي تختلف كل الاختلاف عما ورد في (مَتَّىَ 25) وبالحقيقة المؤمنون لا يأتون إلى الدينونة، كما قال الرب في إنجيل (يوحنا 24:5): «الحق الحق أقول لكم مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فلهُ حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة». لا جرم أننا سنقف أمام كرسي المسيح وكل واحد سيُعطي عن نفسهِ حسابًا لله. ولكن حين يقف المؤمنون لدى كرسي المسيح يكونون قد تمجدوا ونهضوا في المجد وتحولوا إلى شبه جسد المسيح بحسب كونهِ إنسانًا. فحين يظهر نكون مثلهُ، فلأجل ذلك كل مَنْ عندهُ هذا الرجاء بهِ يُطهر نفسهُ كما هو طاهر، يعني يقيننا الشديد بأن لا شيء من الدينونة علينا وبأننا سنظهر مع المسيح في المجد هو القانون لسلوكنا الآن بالتقوى وبهِ نُطهر أنفسنا عمليًّا.
إن مجيء المسيح الأول قد نزع الخطية بحسّب تعلُّقها مع الدينونة، ولكنهُ سيظهر ثانية للخلاص الكامل وليقبل المؤمنين لنفسهِ ويُمجدهم. على أن أرواحهم معهُ في السماء تنتظر تلك الساعة، أما قيامة أجسادهم فتتم حين إيابهِ وحينئذ نكون كلنا مع الرب إلى الأبد. فحين نتمجد سنُعطي حسابًا عن كل شيء وسنعرف كما عُرفنا. فهذه القيامة من الأموات التي ننتظرها.
فعرض للتلاميذ صعوبة في فهم القضية التي تكلم عنها الكتبة وهي وجوب إتيان إيليا قبل المسيح؛ لأن الكتبة كانوا لا يزالون أصحاب نفوذ وسطوة على التلاميذ. وبالحقيقة كانت تلك النبوة مُدرجة في سفر ملاخي ولا بد من إتمامها قبل إتيان السيد بالمجد كيفما كان أسلوب ذلك الأكمل، ولكنهُ أتى أولاً في حال وضيعة فكأنهُ كان مُستترًا بالنظر لمجدهِ الخارجي فقد دخل من الباب كراعي الخراف، وذلك لكي يرى القوم بالإيمان من خلال سحابة مركزهِ الوضيع ومن حياتهِ اليومية ويُميزوا أنهُ هو مسيا إسرائيل الموعود بهِ محبة الله نفسهِ وقوتهِ ويُشاهدوا أنفسهم في حضرة قداستهِ.
أما اليهود فكانوا متأهبين الترحيب بمسيا يُحررهم من النير الروماني، غير أن حضرة الله أم لا يحتملهُ الإنسان حتى وإن كان قد ظهر بين البشر بالجودة والصلاح. وقد أشار الرب إلى مجيئهِ المُزمع بقولهِ في (مَتَّىَ 23:10): «لأني أقول لكم أنكم لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان، ولكنهُ قد ظهر الآن في حال وضيعة. وقد جُعل أدنى من الملائكة لتجرعهِ كأس الموت (أي لكي يستطيع أن يتألم)». وعلى هذا المنوال أتى يوحنا المعمدان أيضًا بروح إيليا وقوتهِ كما ورد في (إشعياء 3:4؛ ملاخي 5:3، 6) لكي يُهيئ طريق الرب، فلذلك أجاب السيد بقوله:ِ أن إيليا لا بد أن يأتي. وبجوابهِ صادق على تعليم الكتبة بما قالوا في شأن هذا الموضوع، ولكن كان لا بد أن يتألم ابن الإنسان ويُرذل. ولكني أقول لكم: «أن إيليا قد أتى وعملوا بهِ كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنهُ. وكانوا مُزمعين أن يعملوا كذلك مع ابن الإنسان أيضًا».
14 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. 15 وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. 16 فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ:«بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» 17 فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ :«يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، 18 وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 19 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». 20 فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. 21 فَسَأَلَ أَبَاهُ:«كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. 22 وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». 23 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». 24 فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ:«أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». 25 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ:«أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» 26 فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». 27 فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. 28 وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ:«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 29 فَقَالَ لَهُمْ:«هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». (عدد 14-29).
أما السيد وإن كان قد ظهر بالمجد لدى أبصار التلاميذ في التجلي فقد اهتمَّ الآن بشفاء العالم الساقط، ذلك تُمثلهُ الحادثة المذكورة تمثيلاً جديرًا بالالتفاف وتدل على صبرهِ العجيب وعلى أفكار الله السامية، فإنه حين انحدر من الجبل رأى جمهورًا عظيمًا والكتبة يتحاورون مع تلاميذهِ، فهذه حقيقة مباركة يليق بنا التأمل بها وهي أن الرب ابن الله الذي سوف يظهر في المجد ونكون معهُ ما فتئ ينحدر إلى هذا العالم كما يفعل الآن بروحهِ ويُلاقي الجمهور ويُصادم قوة الشيطان لأجلنا. ثم يليق بنا أن نُمعن النظر بهذه الحقيقة أيضًا وهي أنهُ يتكلم مع تلاميذهِ بالوداد التام كما كان يتكلم مع موسى وإيليا. فيا لعظمة نعمتهِ! غير أن إجراء هذه النعمة مما يُبين مقامهُ وحال الإنسان وحال تلاميذهِ. فإن والدًا بائسًا لجأ إليهِ طالبًا الشفاء لولدهِ المُصاب المُتألم من روح أخرس (أي روح ردي قد استولى على الولد ومن جُملة أعمالهِ معهُ ربط لسانهِ)، وقال ليسوع بأنهُ أحضرهُ إلى تلاميذهِ فلم يستطيعوا إخراج الروح النجس، فهذه هي حالتهم فلم يُصادف السيد عدم الإيمان فقط، بل أن القوة الإلهية وإن كانت قد حلَّت على الأرض لم يعلم الناس حتى المؤمنون كيف يستخدمونها وينتفعون بها. فإنهُ لهُ المجد يجترح المُعجزات، غير أن الإنسان لم يعلم كيف ينتفع بها أو يستخدمها بالإيمان. فقد كان جيلاً عديم الإيمان فلم يستطع الرب البقاء هنالك، فقد غادر ذلك المكان ليس بسبب قوة الشيطان وحضورهِ؛ لأنهُ إنما انحدر لهذه الغاية أي لأبطال تلك القوة، بل حين لم تعلم خاصتهُ كيف تنتفع من القوة والبركة اللتين أتى بهما إلى العالم ووضعهما في ما بينهم كان لا بد من وشك انقضاء ذلك النظام الممتاز بهذه العطايا، فذلك ناشئ لا من وجود عدم الإيمان في العالم؛ بل لأن خاصتهُ هم لم يستطيعوا إدراك القوة الموهوبة لهم. فترتب على ذلك سقوط شهادة الله وانهدامها بدلاً من توطدها وتشييدها؛ لأن إتباعهم هذه الشهادة لاقوا قوة العدو ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، فكانت قوة العدو فاقت قوتهم.
فقال الرب: «أيها الجيل العديم الإيمان إلى مَتَىَ أكون معكم إلى مَتَىَ أحتملكم؟». فإن خدمتهُ على الأرض كانت قد انقضت، ولكن انظروا صبر الرب وصلاحهُ فلا يستطيع أن يُنكر نفسهُ، فكان يعمل في كل مدة وجودهِ هنا على الأرض بحسب قوتهِ ونعمتهِ رغمًا عن عدم إيمان خاصتهِ. ثم ختم الجملة التي وبخهم بها بهذه العبارة: «قدْموهُ إليَّ». نعم كان إيمان ذلك الوالد المسكين ضعيفًا جدًا، ولكن الرب لم يرفض طلبتهُ لقلة إيمانهِ، فإن الإيمان مهما كان قليلاً لا يتركهُ السيد بدون جواب. فما أعظم التعزية الناشئة من ذلك! وهي أن القليل الإيمان إذا وافى إلى المسيح بحاجتهِ الحقيقية وإيمانهِ البسيط وجد قلبهُ متأهبًا لا محالة لإسعافهِ وقوَّتهُ كافية لشفائهِ، بل إذا وُجدت نفس واحدة لها إيمان بجودة الرب يسوع وسلطانهِ فازت بقضاء حاجتها ونالت أمانيها.
فربما كانت الكنيسة في حال الخراب والانحطاط كما كان إسرائيل قديمًا، غير أن رأسها كافٍ لقضاء كل أمر فهو يعلم حال خاصتهِ ولا يتأخر عن سد حاجات شعبهِ. أما ذلك الصبي فكان في حال خطرة وكان الشيطان قد حلَّ فيهِ منذ طفوليتهِ، وكان إيمان الأب ضعيفًا، ولكنهُ كان حقيقيًا فقال ليسوع: «إذا كنت تستطيع شيئًا فتحنن علينا وأعنَّا» فجواب الرب جدير بالاعتبار فقال لهُ: «إذا كنت تستطيع أن تؤمن فكل شيء مُستطاع للمؤمن». فإن القوة تتحد مع الإيمان فالصعوبة ليست من جهة قوَّة المسيح لن تفرغ قط ولا تعجز عن القيام بكل ما هو لخير الإنسان، لكن وا أسفاه! ربما أعوزنا الإيمان للانتفاع بتلك القوة، غير أن الرب مُفعم من الصلاح. فقال ذلك الوالد البائس بدموع: «إني أُومن فأعِن عدم إيماني» تلك كلمات مُخلصة خارجة من قلب مُتأثر قد حرك فيهِ الرب عواطف الإيمان، غير أن شدَّة قلقهِ على ابنهِ قلَّلت إيمانهُ وأضعفتهُ، بحيث أنهُ كان ينظر إلى الأحوال المُتعبة والصعوبات العظيمة أكثر مما نظر إلى قوة الرب لإزالتها، وكان بطرس عمل هكذا حين نزل من السفينة ليمشي على الماء. ونحن أيضًا نتشبه بهما أوقاتًا كثيرة إذا تراكمت علينا الضيقات ونهتمُّ بها عوضًا عن أن ننظر إلى يد الرب المُقتدرة.
أما يسوع فقد جانب كل مظاهرة خارجية بهذا الأمر ولم يهتم إلا بحاجة الأب وابنه،ِ فأمر الروح النجس بسلطان أن يخرج من الغلام ولا يعود إليه أيضًا فخرج منهُ مُظهرًا في الوقت نفسهِ قوتهُ بتمزيق الولد حتى صرعهُ وتركهُ كمائت، ولكنهُ خضع كل الخضوع لسلطة الرب. فهذا لا ريب من المشاهد الجميلة بأن نرى السيد مُنطلقًا للقاء عدم إيمان العالم وخاصتهِ بعد ظهورهِ في المجد على الجبل وأن نُشاهدهُ ذاهبًا لمواجهة أولئك الضعيفي الإيمان المُفتقرين إليهِ وذلك في حضرة عدو ذي قوة عظيمة؛ لأنهُ لا يبتعد عنا في حالٍ كهذه، بل يشترك بأحزاننا ويُشجع إيماننا الضعيف وبكلمة واحدة يطرد كل قوة العدو. فلم تمنعهُ حالهُ المجيدة ولا عدم إيمان العالم الذي رفضهُ من أن يكون ملجأً وعلاجًا لأقل القوم إيمانًا، بل يهتم بنا ويُبالي بأحوالنا ويُعيننا.
فالرب وإن كان قد تقلد بالمجد بحسب حقوقهِ الإلهية لا تقل محبتهُ نحو جنسنا الإنساني البائس ولا تنخفض رأفتهُ علينا. ثم أننَّا نرى درسًا آخر مهمًّا في ختام هذه الحادثة وهي أن الإيمان القوي العامل سواء جرت المُعجزات في ذلك الحين أو في خلال الحوادث العظيمة في ملكوت الله يتأيد بشركة وطيدة مع الله وبالصلاة والصوم، فالقلب يخرج من حضرة الله ليطرد قدرة العدو، ولكن قوة الرب ونعمتهُ وإن كانتا عظيمتين لا تستطيعان أن تأتيان بالخلاص الكامل الأبدي بدون موت الرب على الصليب، فذلك عمل خطير للسيد نفسهِ ولا يستطيع عليهِ أحد سواهُ. على أن فهمهُ عسر للقلب الإنساني، ولكنهُ كان لازمًا كل اللزوم لمجد الله وفدائنا. ذلك درس ينبغي أن نتعلمهُ لنسير في سبل الله، وما ذلك إلاَّ عمل الصليب فنتعلم من ذلك درسًا مُفيدًا وهو أن لا بد لنا من حمل الصليب ونرى ذلك في الفصل الآتي.
30 وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، 31 لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ:«إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». 32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ. (عدد 30-32).
أما الآن فبعد أن أعلن الرب مجدهُ المزمع ومجد الملكوت، وبعد أن أُظهر قوتهُ وجودتهُ الكاملة رغمًا عن عدم إيمان العالم، وبعد أن انطلق عقب رفض العالم إياهُ أخذ تلاميذهُ على انفراد وهو مجتاز في الجليل وشرع يُفهمهم أن ابن الإنسان يجب أن يُسلَّم إلى أيدي البشر فيقتلونهُ. وهو يُلقب نفسهُ بابن الإنسان؛ لأنهُ لا يستطيع بعد البقاء على الأرض بصفة مسيَّا الموعود بهِ، لكنه لابد أن يُتمم عمل الفداء. وأنهُ بعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. ثم بعد إتمام عمل الفداء وإبداء الخليقة الجديدة بقيامة المسيح يصير مقام جديد لنا بموجب اقتراننا معهُ على هذه الحالة، وهو مقام أفضل وأسمى جدًا مما كان آدم فيهِ قبل سقوطهِ. فإنهُ كان كمخلوق حائزًا على بركات طبيعية إنما امتحن الله أمانتهُ فوجدها ساقطة. لا جُرم أن الخاطئ ليس هو في مقام المفديين، أما في آدم فجميع الأشياء تعلقت على مسئوليتهِ، وأما المسيح الإنسان الجديد الناهض من الأموات فقد أُمتحن كل الامتحان مدة إقامتهِ في هذا العالم فوجد كاملاً، وقد أُختبر حتى الموت فمجد الله تمجيدًا. فإنهُ حمل خطايانا ومحاها إلى الأبد. فقد خضع للموت، لكنهُ انتصر عليهِ وخرج منهُ ظافرًا، وكابد ضربة القضاء الإلهي على الخطية. فقد استخدم الشيطان قوتهُ كلها في موت يسوع بحسب كونهِ إله هذا العالم على أنهُ لم يكن ممكنًا أن يضبط منه، بل قام الرب من الأموات بعد احتمالهِ التجربة التي أسلم نفسهُ إليها حبًا بنا وتمجيدًا لله أبيه، فقمنا نحن معهُ بالإيمان والرجاء بفعل روح الله الذي يربطنا مع فادينا المجيد فلم يبقَ لتلك التجارب والآلام من سلطة عليهِ. وكما هو هكذا نحن في العالم فإن مقامهُ وحالهُ الآن هما لنا أيضًا.
فقد غلب الموت الذي أخضع آدم نفسهُ لهُ وانتزعت خطايانا لدى الله وأصبحنا بالنظر لضمائرنا مكملين إلى الأبد وبدأت بنا حياة جديدة وسماوية وتهيأ لنا مجد سماوي حيث دخل يسوع **ابق لأجلنا إذ كان مع الآب قبل تأسيس العالم، ونحن ننتظر قيامة الجسد. غير أن مقام المسيح كإنسان مُمجد إنما هو الثمر الناشئ من كونهِ قد مجد الله كل التمجيد، أما نحن فنشترك بحياتهِ بفعل روح الله ونُقاسمهُ أثمار عملهِ حتى في الوقت الحاضر بالنظر لمركزنا لدى الله. ثم سنُشابههُ في المجد كل المشابهة. ولا ريب في أن آدم كان سعيدًا في برارته،ِ غير أن تلك السعادة تعلقت على طاعتهِ. أما مقام يسوع كإنسان فإنما هو ثمر طاعتهِ الكاملة بعد أن أُمتُحِنَتْ حتى تجرَّع كأس الموت واللعنة حين صار خطية لأجلنا.
فالحالة الأولى، كانت عرضة للتغير وللخراب الكامل بالسقوط. أما الحالة الثانية، فعديمة التغير؛ لأنها موطدة على عمل يستحيل أن يفقد قوته قوتهُ فقد أصبحنا بهذا الاشتراك بحياة يسوع في نسبة جديدة مع الآب أدخلنا إليها يسوع المسيح؛ لأنهُ قال له المجد بعد قيامتهِ: «إني أصعد إلى أبى وأبيكم، وإلهي وإلهكم». فقد دعتهُ الضرورة إتمامًا لهذه الأشياء كلها أن يجتاز وادي الموت ويحمل الصليب ليشرب الكأس التي أعطاها الآب لهُ. فمن ثمَّ يستدعي التفات تلاميذهُ إلى موضوع الصليب ليُعلَّمهم أن يتوقعوا ذلك لأنفسهم، ولكن ما هو الإنسان وكيف يقبل هذه الحقائق. ذلك نتعلمهُ مما يأتي.
33 وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ:«بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» 34 فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ». 36 فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 37 «مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». (عدد 33-37).
إن يسوع كان لم يزل شاعرًا بمجدهٍ حين اعترف بهِ الآب مذ برهة كابنهِ الحبيب وعلم أن هذا المجد نفسهُ جعل الصليب لازمًا كل اللزوم ليأتي بأبناء كثيرين إلى المجد. فتكلم عنهُ مع تلاميذهُ وأكد لهم أن الضرورة تقضي عليهم بحملهِ أيضًا، فان هذا هو السبيل إلى المجد المؤسس على موتهِ، فكان حينئذ قلبهُ مفعمًا من أفكار الآلام المقترنة بالصليب ومن الكأس المزمع أن يتجرَّعها ومن ضرورة فهم تلاميذهُ هذه الحقيقة أي وجوب حملهم الصليب. أما تلاميذهِ فكانت قلوبهم ملآنة من أمور تباين تلك، فإنهم كانوا يُفكرون في مَنْ منهم هو الأعظم. فوا أسفاه! كيف أن قلوبنا عاجزة عن فهم أفكار الله وعن التأمل بمخلّص وضع نفسهُ حتى الموت لأجلنا. على أن روح الله يمُثل لنا هنا ملكوت المسيح المُنتظر من اليهود تمثيلاً يُباين ملكوتهُ السماوي الآخذ في أن يؤسسهُ تأسيسًا مبنيًا على موتهِ المحتوم، غير أن هذه المُقابلة المُتعا**ة تظهر بأشدّ وضوح في قلب الإنسان، فإنهُ يودّ أن يكون عظيمًا في ملكوت مُؤسس حسب مجد الإنسان وقوته ويعتبر من الأمور الحسنة أن يتنازل الله إجراء ذلك. أما الله فيرغب في تعظيم مجدهِ وتوطيدهِ أدبيًّا وخفض مجد الإنسان الباطل ومُلاشاتهِ وكشف حقيقة القلب الإنساني وإعلان محبتهِ وقداستهِ وعدلهِ. ذلك جميعهُ لا يطلبهُ الإنسان ولا يصبو إليهِ، فلما تكلم المسيح عن هذه الحقائق المُقدسة وقلبهُ ملآن من التأمل بها وبالآلام المُتحتم عليهِ مُكابدتها إتمامًا لِما قبل تشاجر تلاميذهُ في مَنْ منهم يكون الأعظم. فيا لانحطاط القلب الإنساني وشقاءهِ!
فما أعظم عجزنا وقصورنا عن فهم أفكار الله ، وعن الشعور برقَّة قلب يسوع وأمانتهِ ومقاصدهِ من نحونا! وما هي إلاَّ محبة إلهية تعتلن في قلب الإنسان، فإنهُ كان كإنسان في وسط أُناس لا قدرة أدبية لهم على فهم أفكار الله، غير أن هذا يُمهد السبيل لإعلان أفكارنا المُعا**ة أفكار يسوع مُعا**ةً كاملةً. فليمنحنا الله نعمتهُ لنُخضع الجسد كل الإخضاع حتى يكون الروح القدس ينبوع أفكارنا وكل حركات قلوبنا. على أن الضمير لا يصمت إذا علَّمتنا كلمة الله. فنعلم أن الرغبة في المجد الباطل أمر سيئ في نفسهِ ولا يليق بحضور المسيح فنخجل. فصَمَت التلاميذ؛ لأن ضميرهم كان يتكلم ويُوبخهم.
أما الآن فوجه السيد بمحبتهِ وصبرهِ وعنايتهِ لتعليمهم، فجلس ونادى الاثنى عشر، فعلى هذا المنوال يهتم بنا يسوع على الدوام. ثم علَّم مبادئ تفتقر للإيضاح. فالموضوع المُهم أساس أقوالهِ وتعاليمهِ هو أن مجد الملكوت المُزمع قد أُعلن وإن ذلك الإعلان مُقترن بالصليب. وإنهُ يُنهي كل النِسَب بين الله وإسرائيل، بل بينهُ تعالى والإنسان بحسب الجسد ولا يستثنى من ذلك إلاَّ نعمتهُ الإلهية ومبدأ النسبة الجديدة السماوية بالإيمان، غير أن يسوع مسيا الموعود بهِ لإسرائيل الإله الذي ظهر في الجسد الرجاء الأخير للإنسان الحال على الأرض كان قد رُفض فانقطعت العلاقة بين الله والإنسان. أيستطيع أحد أن يطلب مجدًا على أرضٍ شريرة كهذه؟ فما هي إذًا الأخلاق والصفات المُلائمة تلميذ المسيح؟ الجواب: الاتضاع. مَنْ أراد أن يكون أولاً فليكن خادمًا للجميع. ثم أخذ ولدًا وأقامهُ في وسطهم، وقال: «مَنْ قَبِلَ واحدًا من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، ومَنْ قبلني فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني». فاسم المسيح إنما هو محور الدائرة والأمر العظيم الكلي الأهمية بالإيمان.
38 فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قِائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». 39 فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. 40 لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. 41 لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ. 42 «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. 43 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 49 لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. 50 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا». (عدد 38-50).
نرى هنا توبيخًا على أمر لم يكن في نفسهِ إلاَّ محبة، وإن كانت ليست من باب اللطف والرقة بل بدت بمظاهر الخداع ولاحت كأن الغاية منها مجد المسيح. فإن المحبة بذاتها ليست بأمر قويم فهي تصبو للمُحافظة على مجد اسم المسيح إذا استطاعت الاقتران بهذا المجد، فقد قال التلاميذ: «رأينا واحدًا يُخرج الشياطين باسمك وهو ليس يتبعنا فمنعناهُ». لاحظوا هنا ضمير المُتكلمين فإنهُ يُنبئ عن محبة الذات تحت ستر المكر والدهاء، على أن ذلك الدهاء أمر مُخطر وخيم العواقب وهو بالحقيقة أصل الغيرة المذهبية التي يمكن أن تحملنا على أن نغار لمجد المسيح وأفكارنا ليست مُخلصة، بل ممزوجة ببعض أشياء لا تُناسب ذلك وإن كان فينا جوهر المحبة. فمن الجهة الواحدة تحب نجاح خدمة الرب، وأما من الأخرى فيسيء علينا نجاحها عن يد مَنْ ليس معروفًا أنهُ معنا. نريد أن النجاح يُحسب لنا ولجماعتنا، كقول التلاميذ: «يا مُعلم رأينا واحدًا يُخرج شياطين باسمك وهو ليس يتبعنا. فمنعناهُ لأنهُ ليس يتبعنا». غير أن جواب الرب يُبين كيف رَفضهُ العالم رفضًا مُطلقًا، فقال: «مَنْ ليس علينا فهو معنا». فإن العالم بأسرهِ كان في حالهِ الطبيعية عدوًّا للمسيح وما زال كذلك، فلا يستطيع أحدٌ صنع المُعجزات باسمهِ ويتكلم عليهِ سوءًا أو يستخف بهِ سريعًا. فاسم المسيح إنما هو الشيء الجوهري للمؤمن الحقيقي فلنحذر من هذه الكلمة السيئة وهي نحن ونحن.
ولكن ما أقطع هذه الشهادة على حال الإنسان وعلى عِدوانهِ الداخلي للإله المُعلن بالمسيح، فإن مَنْ ليس عليهِ فهو معهُ!. يعني أن الانفصال بين الله والعالم قد تأكد واتضح إلى هذا المقدار حتى أن كل مَنْ لا يقوم ضد المسيح فهو بالتبعية معهُ؛ لأنهُ لا يمكن لأحد أن يكون على الحيادة. فيترتب على ذلك نتائج خطيرة أولها أن محبة الإنسان للمسيح وإن كانت قليلة وتلُّقهُ بهِ زهيدًا، بل إذا حفظ في قلبهِ ذلك الاسم الطاهر فلا ينساهُ الله ولا يرفضهُ. فما أقطع هذا التمثيل وأفعلهُ للدلالة على صبر المسيح ولطفهِ، حتى وضع نفسهُ واحتمل رفض الإنسان وازدرائه!ِ ومع ذلك لم ينسَ أقل علامة من وداد تابعيهِ ورغبتهم في مجدهِ. ثم نرى في ذلك نتيجة ثانية وهي أن السيد لا يُريد أن يُحتقر ولد صغير ممن يؤمن بهِ، بل يعتبر أولئك الأولاد؛ لأن قلوبهم تعترف باسمهِ وتؤمن بهِ، ومن ثمَّ نرى لهؤلاء قيمة عظيمة لدى الله. فالويل لمَنْ يحتقر ويرذل مثل هؤلاء أو يضع معثرة في سبيلهم فإن الأفضل لذلك الإنسان أن يغرق في لُجة البحر. على أن الأمر بالنظر إليهم يتعلق كل التعلق على أمانة المسيح ولهذا السبب يعوزهم التحرُّر من كل الأشياء التي تفصلهم عن المسيح وتقودهم إلى الخطية وتؤدي إلى ارتداد القلب داخليًا وارتدادهِ الظاهر أيضًا. وعندي أن الله يحفظ خاصتهُ، ولكنهُ لا يحفظهم إلاَّ بحملهم على الطاعة لكلمتهِ. والصغار هنا هم الصغار حقيقةً الذين لهم إيمان بالمسيح.
ومن الأمور الواجبة علينا إنما هي إتباع المسيح ولو مهما كلفنا ذلك. فإذا أعثرتنا العين وجب علينا قلعها، أو اليد فُرِض علينا قطعها. والخُلاصة يجب علينا نبذ أثمن الأشياء وأكرمها في هذا السبيل؛ لأن البركات الأبدية مع المسيح أفضل من المُحافظة على اليد اليُمنى والمصير إلى عذاب أبدي، حيث دودهم لا يموت والنار لا تُطفاُ وفضلاً عن ذلك نرى أن الله يضع كل الأشياء تحت الامتحان. كقولهِ: «لأن كل واحد يُملح بنار وكل ذبيحة تُملح بملح». فإن نار دينونتهِ تُطلق على الجميع على القديسين وعلى الأثمة. أما القديسون فتُنقيهم من الأدران والأوساخ في سلوكهم هنا في العالم لكي يتألق الذهب الصافي ببهائهِ الحقيقي، وأما الأثمة فتنصب عليهم نار الله والآلام الأبدية طبقًا لقضائهِ العادل، فهي النار التي لا تُطفأُ. وأما قولهُ: «كل ذبيحة تُملح بملح». فهذا يُشير إلى ما ورد في (اللاويين 13:2) فإن الملح كناية عن قوة الروح القدس ليس لإنشاء النعمة فينا فقط، بل لحفظنا من كل ما هو غير طاهر وإيجاد القداسة في قلب مُتعلق بالله، وذلك الروح يقرننا مع الله اقترانًا حيًّا عمليًّا في جميع تصرُّفاتنا ويجعلنا نتجنب كل ما يُخالف قداستهُ ونتأثر كل ما يُرضيهِ. فيطلب منا إذًا أن نحفظ هذه الحقيقة في قلوبنا وأن يستضئ داخلنا بنور حضرتهِ، وأن نقضي بهذه الواسطة على كل ما هو مكنون في سرائرنا.
ثم لاحظوا أيضًا أن المؤمن إنما هو الذبيحة الحقيقية المقدمة لله، كما قال الرسول: «فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مقبولة عند الله عبادتكم العقلية» (رومية 1:12). فهنا نرى الذبيحة الحقيقية وما هي إلا العبادة العقلية. فهذه النعمة المقدسة فضلاً عن أنها تحفظنا من كل ما هو شرير ونجس تؤثر في داخلنا بسطوتها الصالحة، فيصبح المسيحي المفعم من هذه القداسة العملية شاهدًا للمسيح في هذا العالم الفاسد. هذه دعوتنا، ولكن إذا كنا لا نحافظ على قداسة السلوك نصبح شهود زور حيث نُشاكل هذا الدهر الرافض سيدنا ويظهر كأن الاتفاق بينهما من الأمور الممكنة، غير أننا نُظهر نفاقنا، كقول الرب: «الملح جيد ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة فبماذا تصلحونهُ، ليكن لكم في أنفسكم ملح وسالموا بعضكم بعضًا». فهو يرغب في أن نبذل الجهد لتفوز نفوسنا لدى الله بالقداسة في سلوكنا وسيرتنا وتعتلن كذلك لدى العالم. فينبغي أن نقضي بأنفسنا على كل ما يخفض وضوح هذه الشهادة وطهارتها، وأن نسلك مع الآخرين بالسلام، وأن يسود علينا هذا الروح في نسبتنا وعلاقتنا معهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:39 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح العاشر 
1 وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضًا، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضًا يُعَلِّمُهُمْ. 2 فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ:«هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. 3 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» 4 فَقَالُوا:«مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَق، فَتُطَلَّقُ». 5 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ، 6 وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. 7 مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، 8 وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. 9 فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». 10 ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا عَنْ ذلِكَ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. 12 وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي». (عدد 1-12).
أن تجد تعاليم مهمة في هذا الإصحاح الذي يختم تاريخ حياة المسيح. ففي الأناجيل الثلاثة الأولى نرى الأحوال المتعلقة بموتهِ مبدوءة بشفاء الرجل الأعمى بالقرب من أريحا. ذلك نشاهدهُ في العدد السادس والأربعين من هذا الإصحاح. فالمبدأ الأول الذي نعاينهُ هنا إنما هو فساد كل ما خلقهُ الله على الأرض وخرابهُ ود*** الخطية على العلائق التي وطدها الله وممارسة سطوتها. على ان شريعة موسى نفسها التزمت ان تسمح بأمور تتعلق بحياتنا على الأرض ولا تطابق أفكار الله وأردته. ذلك لأجل قساوة القلب الإنساني ولكن إن كان الله يتأنى على القوم الغير القادرين وهم في هذه الحالة ان يعيشوا معهُ حسب القانون في أمور ليست حسب أرادتهُ ولا حسب العلاقة الكاملة التي وطدها فلا يقضي عليها ولا يكف عن الاعتراف بها بحسب كونها أمورًا قد أسسها منذ البدء. فان ما أسسهُ الله منذ البدء لا يفتأ عن كونهِ صالحًا وهو يحافظ على تلك النسبة ويحامي عنها بسلطانهِ الإلهي. فالخليقة نفسها صالحة غير ان الإنسان قد أفسدها. ومع ذلك لا يكف اله عن الاعتراف بما صنعهُ وبالنسبة التي فطر الإنسان عليها وجعلهُ مكلفًا بالمحافظة على التزاماتهِ. لا جُرم ان الله وإن كان قد أتى بعد موت المسيح بقوة ليست من هذه الخليقة أي الروح القدس فيستطيع الإنسان بهذه القوة ان يحي حياة خارجة عن علاقة الخليقة العتيقة ان دعاهُ الله لذلك غير انهُ من المحتوم عليهِ ان يحترم هذه العلائق حيثما وجدت.
فتقدم الفريسيون وسألوا يسوع إذا كان يحلَّ للرجل ان يُطلق امرأتهُ فانتهز الفرصة لبيان هذا الحق وهو ان ما أسسه الله من بدء الخليقة سنَّة لا يمكن إبطالها فقد سمح موسى للرجل بأن يُطلق امرأتهُ إنما كان ذلك من صبر الله على صلابة قلب الإنسان وأرادتهُ. لأن الله أبدع في الخليقة كلما هو حسن وإن كان ضعيفًا. وقد سمح بأشياء أخرى حين سن السنن الوقتية لشعبهِ الداخل في رتبة الإنسان الساقط. غير انهُ أوجد الأمور حين الخليقة على حال أخرى فإنهُ تعالى قد جمع الرجل والمرأة وضمها معًا فليس لإنسان حق بأن يفصلها فهذه العلاقة لا يجب ان تنفك.
13 وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَدًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. 14 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ:«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. 15 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». 16 فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ. 17 وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ:«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 18 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 19 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 21 فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ:«يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ». 22 فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23 فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» 24 فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ:«يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» 26 فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ:«عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». (عدد 13-27).
ثم أتوهُ بأولاد، فانتهر التلاميذ من أحضرهم. أما يسوع فأغتاظ من ذلك، فأن أصل الخطية، وأن كان مغروسًا في قلوب الأولاد، فهم يمثلون البساطة، والثقة، والخلو من الغش والفساد، الناشئين من معرفة العالم، وانحطاط الطبيعة البشرية، وهم كناية عن بساطة القلب، والطبيعة الغير مُفسدة التي لم تتعلَّم بعدُ عن خداع العالم، فقد شاهد بهم الرب صورة خليقة الله أبيه.
أيوجد بالحقيقة شئ صالح في الإنسان؟ لا ريب أن بقايا مبروكات الله إنما توجد في خليقتهِ الطاهرة فهي م**وة بالجمال، والبهاء، فأن ما يأتي من يد الله كثيرًا ما يكون جميلاً، ويمثل لنا بهاء المبدع، وطهارتهِ. ومن المفروض علينا أن نعترف بذلك كأنهُ صادرٌ منهُ تعالى. فالطبيعة حولنا جميلة؛ لأن الله خلقها، وأن نبت بها العوسج والعلَّيق. بل نجد أحيانًا في صفات الإنسان، وأخلاقه بل في الحيوان أمورًا حسنة محبوبة. غير أن المسألة تتعلق بقلب الإنسان، وأرادته، وما هو عليه نحو الله لا بما هو طبيعي ، ومن أثمار الخليقة. فلا لا يسكن فيهِ شئ صالح، وليس فيهِ عاطفة نحو الله بل بالع** ينفث ضدهُ العدوان، والتمرد، وقد وضح ذلك برفض المسيح.
فهذا هو الدرس الذي نتعلَّمهُ من قصة الشاب المدرجة هنا ذلك الذي ركض، وجثا عند قدمي يسوع، وسألهُ أيها المُعلَّم الصالح: ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية؟ فقد كان ذا أخلاق رضية، وعواطف حسنة متأهبًا للتعلُّم عن طريق الصلاح. وكان قد عاين سمو حياة يسوع، وأعمالهِ فتأثر قلمهُ بما رأى. وكان مفعمًا بحمية الصبا، ولم يكن مفسدًا، ومنحطًا من الانهماك في الرذائل المفسدة للقلب، والأخلاق. وقد حفظ الناموس ظاهرًا، وأعتقد أن يسوع يستطيع أن يعلّمهُ أسمى سُنَن الناموس؛ لأن اليهود أنفسهم ذهبوا إلى أفضلية بعض الوصايا على الأخرى.
غير أن ذلك الشاب لم يعرف نفسهُ، ولا الحالة التي كان عليها الإنسان لدى الله بل كان تحت الناموس؛ فأوضح لهُ يسوع الناموس أولاً في منزلة قانون للحياة أعطاهُ الله لبني آدم في مثابة مقياس للبر، والصلاح. فلم يسأل الشاب كيف يستطيع أن يخلص؟ بل كيف يرث الحياة الأبدية؟ فلم يجيبهُ يسوع عن الحياة الأبدية بل لاقاهُ من نفس الباب الذي دخل بهِ. فقد قال الناموس أفعل هذه؛ فتحيا. فصرَّح الشاب بأنهُ حفظ تلك الأشياء منذ حداثتهِ. فلم ينكر عليه السيد ذلك، ولم يحاجَّهُ بهِ بل يُقال: أنهُ نظر إليه، وأحبَّهُ. فنرى بذلك ما يحبهُ المخلص ويرضى بهِ. ولكن ما هي حالة الإنسان الحقيقية؟ فقد كشف الرب النقاب، ووقف الإنسان مجردًا أمام الله، ووقف الله بقداستهِ أمام الإنسان. فأن الأعمال التي يعملها الإنسان شئٌ، وطريق الخلاص شئٌ آخر.
فلنتأمل بما يقوله الرب عن حال الإنسان. فالشاب خاطب يسوع لا كابن الله بل كحاخام يهودي أي كمعلم في إسرائيل، ودعاهُ المعلم الصالح، فلم يسلم الرب أن الإنسان صالح. لأنه لا يوجد بار بين البشر كلاَّ ولا واحد فأجابهُ: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله. لا جرم أن المسيح صالح لأنهُ الله، وأن كان صار إنسانًا بمحبتهِ الكاملة للإنسان. ولم ينفك عن اللاهوت بل تجسد بدون الانقطاع عن طبيعتهِ الإلهية بدون استطاعة الانفصال عنها. إنما كان لاهوتهُ مستورًا في الطبيعة الإنسانية أو بالحري مجدهُ وذلك لكي يدانينا. فأن سلطان يسوع الإلهي ومحبتهُ تظهران بأشد وضوح بالإيمان. أما الشاب فوافى يسوع كمُعلَّم إنساني أي كحاخام يهودي. فأجابه: وفقًا لأسلوب سؤالهِ وأيد هذا الحق الخطير، وهو أن لا إنسان صالح بين أبناء آدم الساقط. ذلك مبدأ يذلّ كبرياء الإنسان، ويخفضها، ولكنهُ ذو أهمية عظيمة. فلا نجد بذلك إنسانًا صالحًا حسب الطبيعة، وإن رأينا بعض صفاتهِ باقية على الخليقة الأولى. فأن ما خلقه الله صالحًا، وصرَّح بأنهُ كذلك قد فسد بالسقوط. فالإنسان يذهب في سبيل شهواتهِ، ومصالحهِ، لا في سبيل الله ومجده. فربما جدَّ وراء تلك الأشياء بالوجه الحلال أو الحرام، وفتش عليها في قاذورة الإثم، والمعصية، ولكنهُ لا يرغب إلاَّ في إشباع إرادتهِ الذاتية، وقد شرد عن إلههِ، وتاه عنه، ولا يصبو إلاَّ لإرضاء نفسهِ.
فبعد أن عرض الرب على الشاب وصايا الناموس التي إن الإنسان، يحيَ بها، حرضهُ على وصية حملت بولس الرسول على الشعور بما ينشئهُ الناموس في الإنسان الساقط - أعني بذلك الموت – فقال لهُ يعوزك شئ واحد أذهب وبع كل ما لك واتبعني. فنرى بذلك شهوة القلب الذي قد تمزَّق عنهُ الحجاب. فقد جرَّد الرب العارف القلب، والفاحص حالة ذلك الشاب الحقيقية من كل رداه وحجاب بكلمتهِ الفعالة البسيطة. فأصبحت زهور الشجرة البرية عديمة الجدوى، فما أثمارها إلاَّ أثمار قلب منفصل عن الله، والعصارة إنما هي عصارة شجرة مرّة، ورديئة. فقد سادت محبة المال على قلب ذلك الشاب، وإن كانت عواطفهُ الطبيعية قد بدت بمظاهر الخلوص، والأمانة. غير أن محبة الدينار كانت كامنة في أعماق قلبهِ، وهي المحرّك الأول لأرادتهِ، ومقياس حالهِ الأدبي الحقيقي؛ فذهب حزينًا وغادر السيد لأنهُ فضل الدراهم على الرب المُعلَن بملء المحبة، والنعمة.
فما أرهب وجودنا في حضرة فاحص القلوب. فالمقياس الحقيقي لحالة الإنسان الأدبية إنما هو الباعث، والمحرّك لا الصفات، والأخلاق الموروثة بالولادة، وإن كانت على جانب من الألطاف، والمحاسن فأن الصفات الحسنة توجد حتى في الحيوانات، وهي مما يحمل على الاعتبار، والمحبة، ولكنها لا تعلن قط حالة القلب الأدبية. فالإنسان الموصوف بالطبع الشرس، والأخلاق السيئة الباذل الجهد في الحكم على خلقهِ القبيح بالنعمة، وفي أن يكون محبوبًا عند الناس، ومرضيًا لله هو في حالة أدبية أفضل من الإنسان الحسن الأخلاق طبيعيًا الراغب في التمتع بالمسرات مع الآخرين، وفي إرضائهم بدون ضمير لدى الله، وبدون المبالاة بهِ فأنهُ وإن كان محبوبًا من الناس فهو مُغيظ لله؛ بنسيانهِ إياهُ وعدم اكتراثهِ بهِ. فغاية القلب هي التي تصوّر صفات الإنسان الأدبية، وهذا ما أوضحهُ يسوع في هذه الحادثة إيضاحًا مؤثرًا؛ فخرق بذلك كبرياء القلب الإنساني، وهدم معلقها.
غير أن السيد صرَّح بشيء آخر أيضًا، فأن التلاميذ ذهبوا كالفريسيين في كل قرن إلى أن من الواجب على الإنسان أن يربح السماء لنفسهِ، وأن اعترفوا بالحاجة للمساعدة الإلهية انذهلوا وعجبوا من ذلك، فكأنهم قالوا: أيمكن أن إنسانًا كهذا غنيًّا ذا أخلاق فاضلة قد حفظ الناموس، ولم يطلب من مُعلَّمهم إلاَّ معرفة الوصية الفضلى؛ ليقوم بإتمامها يكون بعيدًا عن ملكوت الله، ود***هُ إليهِ عسرًا في الدرجة القصوى. فإذا لم نفهم هذه الحقيقة، وهي أننَّا هالكون، ونفتقر للخلاص، وأن المسألة تتعلق على حالة القلب، وأن كل القلوب بعيدة عن الله حسب ا لطبيعة، ولا تطلب إلاَّ شهوتها بالانفصال عن الله، وأنها لا تودُّ حضورهُ لأن الضمير يشعر أن ذلك يمنع القلب من أتباع غايتهِ، وإذا لم نتعلَّم هذه الأمور بالنعمة كنا عميانًا وفي جهالة قصوى.
أن يسوع لم يستطع الآن كتمان حالة القلب الحقيقية اقلهُ عن تلاميذه فهذه الحالة قد ظهرت كل الظهور لأن الإنسان أبى قبول ابن الله. ومن ثمَّ قد تبرهن أن المرء بأفضل الصفات الطبيعية حتى بالمحافظة على الآداب الخارجية فضل اتباع غاية أمانيهِ، وأطماعهِ على محبة الله الحالة على الأرض أو على مُعلَّم اعترف بأن لهُ أسمى المعرفة بمشيئة الله. ذلك يبين أن الإنسان هالك، فقد ظهرت هذه الحقيقة برفض ابن الله، فلا غنى لهُ تعلُّم هذا الدرس الخطير، وأنهُ وأن كان حائزًا على أفضل الصفات، لا يستطيع أن يخلّص نفسهُ. فمن يستطيع إذًا أن يخلص! أما يسوع فلم يكتم هذا الحق فقال: أن ذلك غير مستطاع عند الناس، فما أرهب هذه الكلمات التي نطق بها السيد الآتي ليخلصنا! فقد علَم أنهُ يستحيل على الإنسان خلاص نفسهِ، ويتعذر عليهِ النهوض من الحالة التي سقط بها بدون معونة الله. ذلك غير مستطاع عند الناس إنما يأتي الله بمحبتهِ الغير محدودة لإنقاذنا، ولا يكتم عنا حالتنا السيئة، وافتقارنا لخلاصهِ المجاني.
فلابدَّ لنا من معرفة حالتنا الحقيقية، ولا نقدر أن نستخف بأن ابن الله المجيد أخلى نفسهُ لأجلنا، ومات على الصليب الذي هو الواسطة الوحيدة لفداء الإنسان الهالك، وخلاصهِ. فلا غنى لنا عن معرفة أنفسنا، وأنهُ قد قضى علينا بالهلاك؛ وذلك لكي نستطيع أن نفهم أن المسيح حمل هذا القضاء عوضًا عنا، وأنهُ أكمل عمل خلاصنا بحسب مجد الله. فلنتأكد وقوع الدينونة علينا، ولندرك قوة الخطية، ونتائجها، ولتتضح لدينا كل الوضوح محبة الله، وبرُّهُ الكامل، وقداستهُ التي لا تطيق النظر إلى الخطية، وأن عاملنا بالصبر، والإمهال فإذا عرفنا ذلك؛ علَمنا أن هذا غير مستطاع عند الناس… ولكن عند الله كل شئ مُستطاع فلا يتم ذلك إلاَّ بعمل يسوع المسيح فقط، ذلك ما اشتهت الملائكة أن تُطلع عليهِ، فالخلاص لا يمكن نوالهُ إلاَّ بالإيمان لأن العمل قد كمل، فالمجد كل المجد لأسمهِ الكريم. فقد تمجد يسوع كإنسان في السماء لأن العمل قد نُجز، ولأن الله قد اعترف بكمالهِ ولهذا السبب قد وضع المسيح عن يمينهِ لأن كل شئ قد تمّ فارتضى الله، وتمجد بعمل يسوع.
ذلك غير مُستطاع عند الناس، ولكن عند الله كل شئ مُستطاع. فما أعظم النعمة! التي تبين لنا من نحن؟ وما هو الله؟ أن النعمة، والحق أتيا بيسوع المسيح، فتأملوا بهذه الحقيقة أيها الأخوة، فأن هذا يفيد أننَّا ينبغي أن ننتظر في هذا العالم صليبًا. فكونوا متأهبين لقبول كلمات الرب، ولحمل الصليب لكي تفوزوا بمعرفة أنفسكم حقيقةً أي أنكم هالكون بالخطية، وأن الخلاص إنما هو من مجرَّد النعمة لا بالوسائط البشرية فأن ذلك غير مُستطاع. إنما عمل الخلاص كامل، وتامٌ، وأن برَّ الله على كل الذين يؤمنون بمن أكملهُ. فلا نرى في كل الأسفار المقدسة هذا الحق الأساسي عن افتقار الإنسان لخلاص الله، وعن حالتهُ الحقيقية مُوضحًا إيضاحًا جليًا أكثر مما هو وارد في هذه الحادثة.
28 وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ:«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 31 وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ». (عدد 28-31).
ثم أضاف الرب إلى ما قيل في قصة الشاب الغني المار ذكرها تعليمًا آخر عن طريق الصليب، والمواعيد المرافقة ذلك، فلنُمعن بهِ النظر.
أنه يسهل علينا أن نرى كيف أن هذه القصة تشبه تاريخ بولس الرسول غير أن النعمة قد غيرت حوادث حياتهِ فأصبحا بعد المشابهة متباينين في أطوارهما. فأن بولس حسب البر الذي في الناموس كان بلا لوم، ولكن حين عملت روحية الناموس في القلب ظهرت الشهوة، وانكشفت؛ فرأى أنه لا يسكن فيهِ أي في جسدهِ شئ صالح. ولما اقتنع بالخطية أعلن الله ابنهُ لهُ؛ ففهم أن الغير المُستطاع عند الناس مُستطاع عند الله. فأن الله فعل لهُ ما لا يستطيع أن يفعلهُ لنفسهِ أي ليربح البر الذي بالناموس، وأن تلك الخطية في الجسد قد قضى عليها بالصليب، وأنه أتمَّ ذلك بذبيحة نفسهِ. فبدلاً من أن يرى نفسهُ هالكًا في الإثم أصبح إنسانًا جديدًا مخلصًا أما الشاب المذكور فظلَّ باقيًا في حالتهِ السابقة فغادر السيد، وانطلق للتمتع بغناهُ، والمحافظة عليهِ، وأما بولس فالأشياء التي عدَّها ربحًا حسبها بعد إذٍ خسارة لأجل المسيح فقال: بل أني أحسب كل شئ أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجلهِ خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح. (فيلبي 8:3).
فانظروا هنا الفرق بين تأثير النعمة، وبين الطبيعة الإنسانية. فسلوكهُ إنما كان ينبئ عن الحكمة الحقيقية، وتأملوا أنهُ لم يحسب كل الأشياء نفاية لأجل فضل معرفة المسيح في البدأة فقط حين أُعلن لهُ يسوع بل استمرّ، وهو سالك بالاشتراك معهُ أن يحسبها كذلك، ويعدها كأقذار لا نفع لها، ولا جدوى. ثمَّ تتبعوا المواعيد المعطاة للسالكين في هذا السبيل، وفي الخطة التي مثَّلها المسيح نفسهُ. فقال بطرس: أنهم تركوا كل شئ ليتبعوهُ، وفقًا لِما كان قد عرضه الرب على الشاب. فماذا يكون لهم؟ فأجابه: يسوع أن ليس أحد يترك بيتًا أو أخوة أو أخوات إلخ لأجلهِ، ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مئة ضعف في هذه الحياة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية أي أنهم سيتمتعون بأمور أفضل جدًا من أمور هذه الحياة الدنية، ولكن مع اضطهادات. فمن ثمَّ لهم موعد الحياة الحاضرة، والحياة العتيدة، فربما لا يربحون غنى العالم بل يتمتعون تمتعًا حقيقيًّا بكل ما هو في العالم بحسب مشيئة الله كعطية منهُ تعالى، ولكن عليهم أن يحتملوا مقاومة عالم لا يعرف الله. غير أن الذين كانوا أوَّلين في الديانة اليهودية سيكونون آخرين بين المسيحيين.
32 وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: 33 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، 34 فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 35 وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ:«يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». 36 فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» 37 فَقَالاَ لَهُ:«أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». 38 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» 39 فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. 40 وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ». 41 وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. 42 فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. 43 فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، 44 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. 45 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ». (عدد 32-45).
ثم انطلق يسوع صاعدًا إلى أورشليم، وكانت قلوب التلاميذ ملأَنة من توقع الأخطار التي كانت أمامهم في تلك المدينة، فتبعوهُ يجزع وارتعاد لأننا نخشى خبث العالم وشرهُ فإنه إذا كان لا يستطيع ان يحارب الله تعالى في الأعالي يقدر ان يضطهد خادميهِ على الأرض. فنرى هنا أيضًا الفرق بين تأثير النعمة في بولس الرسول الذي ترك كل شيء لأجل محبة المسيح وفرح بشركة آلامهِ متشبهًا بموتهِ وأراد ان يعرف قوة قيامتهِ وبين التلاميذ الذين لم يعرفوا هذه الأشياء بعد. أما يسوع فلم يرد إخفاء هذا الحق بل شاء ان يعرف التلاميذ المنزلة التي كان مزمعًا ان يتخذها. فبدأ يُخبرهم عما سيحدث لهُ وما هو نصيب ابن الإنسان. فإنهُ يسلم إلى أيدي الكهنة فيقضون عليهِ ويسلمونهُ لأيدي الأمم فيعاملونهُ بأشد الاحتقار والإهانة ويقتلونهُ ولكنهُ سيقوم في اليوم الثالث. وعلى هذا المنوال ينتهي تاريخ ابن الإنسان بين البشر. فان شعبهُ الخاص كان الأول بالقضاء عليهِ وكان الأمم مستعدين بعدم اكتراثهم لإكمال العمل الهائل وهو رفض المخلص في العالم. فقد اتحد شعب الله أي اليهود مع الوثنيين واتفقوا معًا على طرد ابن الله الآتي بالنعمة لإنقاذهم فكان من الأمور المهمة ان يعرف التلاميذ نهاية معلمهم، وهي ان لابد من موتهِ كابن الإنسان. فهذا هو التعليم الذي هو أساس كل بركة ومصدرها. غير ان ذلك الأساس هدم كل آمال التلاميذ وأمانيهم وأوضح أيضًا شر الإنسان وجودة الله الغير المحدودة.
فالآن قد وضحت أفكار التلاميذ على الفور وبدت بمظهر يُباين أفكار المخلص المقدسة كل المباينة. لا جُرم ان التلاميذ كانوا بعيدين عن إدراك هذا الحق حتى النهاية على أنهم بالنعمة احبوا المخلص، وفرحوا بامتلاكهُ كلام الحياة الأبدية. فكل هذه الأمور لم تكن كافية لمحو أفكار الملكوت الذي كانوا ينتظرونهُ على الأرض ولا لإزالة الطمع الجسدي بالحصول على مقامٍ سامٍ عند المسيح في هذا الملكوت. فلم يجد الرب إنسانًا واحدًا يقدر ان يدرك الأمور التي كان يفسرها لتلاميذهُ عن موتهِ في أورشليم حين انفرد معهم للحديث بهذا الشأن.
فطلب يعقوب ويوحنا ان يجلسا الواحد عن يمينهِ والآخر عن يسارهِ في مجدهِ. ذلك كان لا يخلوا من الإيمان لأنهما اعتقدا بأنهُ سيملك غير ان شهوة الجسد كانت لا تكف عن العمل. أما الرب المفعم من الجودة والإحسان على خاصتهِ فحوَّل بجوابهِ ذلك السؤال الجسدي إلى موضوع مفيد لتعليم تلاميذهِ وانتهز الفرصة الملائمة. فلم يكن هو الشخص الوحيد المطلوب منهُ حمل الصليب. على انهُ هو وحدهُ يستطيع إتمام عمل الفداء بتقديم نفسهِ. فابن الله قد تنازل وأسلم نفسهُ بمحبتهِ ليكون حمل الله الرافع خطية العالم. ولكن كان من المفروض على التلاميذ ان يسيروا في نفس السبيل الذي سلكهُ إذا شاءوا ان يكونوا مثلهُ. أوضح الرب هنا أتضاعهُ الفائق وخضوعهُ التام لما كان مزمعًا ان يلمَّ بهِ.
فقد أخلى نفسهُ وقبل تلك المنزلة الدنيا طوعًا واختيارًا ولم يكن عديم الشعور بعار الصليب وآلامهِ بل قَبِلَ كل شيء من يد أبيهِ وخضع لكل ما يصادفهُ في هذا سبيل.
«فأجاب يسوع التلميذين. وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي ان أُعطيهِ إلا للذين أُعدَّ لهم من أبي» فليس لهُ حق تفضيل الواحد على الآخر في ملكوتهِ بل ترك لأَبيهِ حق الاختيار وإعطاء المجد الخاص المعين لعمل خاص لأولئك المُعدَّ لهم، والذين أعدتهم النعمة لذلك المجد. أما نصيبهُ هو فالصليب فإذا شاء أحد ان يتبعهُ كتلميذ نال المجد بالصليب. فهذا هو الدرس المطلوب من شعبهُ ان يتعلموهُ. وهو كان خاضعًا لأبيهِ وقبِلَ من يدهِ كل ما كان مُعدًّا لهُ بحسب مشيئتهِ، وإذا أراد التلاميذ اتباعهُ وجب عليهم حمل الصليب الغير المنفك عن هذا السبيل والملازم لهُ في كل الأحوال. وفضلاً عن ذلك يُطلب من كل تلميذ يتبع المخلص ان يضع نفسهُ **يدهِ لا ان يُشابه عظماء هذا العالم المعظمين أنفسهم بالانفصال عن الله بل ان يكون خادم الكل بالمحبة كما كان الفادي المبارك وإن كان سيد الجميع بحقه الخاص. فالمحبة أقوى الفواعل وأقدرها وهي تود ان تَخدم لا ان تُخدَم. فعلى هذه الكيفية أعلن الله نفسهُ بالإنسان يسوع ومن واجباتنا ان نتبعهُ في هذا السبيل. فالأصغر في عيني نفسهِ إنما هو الأعظم عند الله.
فهنا قد انتهى تاريخ خدمة المخلص على الأرض وبدأ تاريخ الحوادث المقترنة مع آلامهِ. غير انهُ يعرض نفسهُ أيضًا المدة الأخيرة في أورشليم كابن داود وغاية المواعيد المعطاة لإسرائيل وذلك لكي يقبلهُ شعبهُ وتقبلهُ المدينة المحبوبة، ولكنهم بالحقيقة رفضوهُ وقتلوهُ. فقد تكلم حتى الآن عن ابن الإنسان الآتي ليَخدم ويذل نفسهُ فدية عن كثيرين. أما الآن فصاعدًا فيعرض ذاتهُ بالنسبة الوحيدة التي يستطيع بها الاشتراك مع شعبهِ حسب النبوات.
46 وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِسًا عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 47 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ:«يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» 48 فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا:«يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 49 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ:«ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ». 50 فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. 51 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى:«يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!». 52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ. (عدد 46-52).
فدخل إلى أريحا المدينة الملعونة ولكنهُ دخلها بحسب النعمة الفائقة اللعنة. على انهُ كان مزمعًا ان يحملها هو نفسهُ فقد وافى ابن داود بنعمتهِ وقوتهِ الإلهية واستطاع ان يُكمل كل شيء ولكن بالاتضاع والمسكنة. فأجاب إذًا حسب الاسم المُلقب بهِ أي ابن داود وأظهر بالنعمة سلطانهُ بشفاء الإنسان الأعمى. على ان الجمهور المصاحب المخلص لم يشأ انهُ ينزعج وأما هو فوقف وأصغى بنعمتهِ لاحتياجات شعبهُ وأمر بإحضار بارتيماوس الذي ركض إلى يسوع بفرح فان شعورهُ بالحاجة حملهُ على الإسراع إلى يسوع الشخص الوحيد القادر على القيام بحاجتهِ وأعطائهِ العلاج الفعال القاطع. فالإنسان الأعمى إنما كان صورة حية تُمثل حالة اليهود المظلمة، ولكننا نرى بما حدث عمل الرب بإنشاء الشعور بالحاجة بنعمتهِ فيقلب إنسان يهودي في ذلك الوقت. ولا ريب في ان ذلك بصدق في كل زمن ولا سيما في هذه الحالة وهي حالة اليهود في ذلك الحين. فلما سأل بارتيماوس عن تلك الأصوات أجابهُ الجمع ان يسوع الناصري مجتاز. فهذا اسم لم يفهم معناهُ اليهود لأن الناصرة كانت اسمًا مقترنًا بالتعيير. أما الإنسان الأعمى فكان قلبهُ ملأنًا من الإيمان وعارفًا المنزلة التي اختارها يسوع بالنسبة لشعبهِ فناداهُ يا ابن داود. ذلك يدل على انهُ علم ان وشفاهُ. ففاز بالبصر وتبع يسوع في الطريق.
فهذه هي صورة مؤثرة تُمثل حال إسرائيل والعمل الجاري في وسط الشعب. فان ابن الله وابن داود حسب الجسد وغاية المواعيد كان قد آتى بنعمتهِ وكان قادرًا على إبراء إسرائيل، وقد أزال العمى بالقوة التي آتى بها معهُ وكانت حالة فيهِ في المكان الذي بالحقيقة أعمى. غير ان القوة الإلهية كانت مستعدة للشفاء عند وجود إيمان كافٍ للاعتراف بيسوع كابن داود. ذلك يُزيل العمى على الفور. فهذا مشهد بديع يُرينا عمل النعمة في المكان الذي حلت عليهِ اللعنة. غير ان تلك النعمة لا تعمل إلا حيث يُعترف بيسوع انهُ ابن داود وهي التي فتحت عيني الأعمى فأصبح منذ ذلك الحين تلميذًا ليسوع.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:45 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح الحادي عشر 

1 وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا، عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، 2 وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشًا مَرْبُوطًا لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاََّهُ وَأْتِيَا بِهِ. 3 وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَفْعَلاَنِ هذَا؟ فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُ إِلَى هُنَا». 4 فَمَضَيَا وَوَجَدَا الْجَحْشَ مَرْبُوطًا عِنْدَ الْبَابِ خَارِجًا عَلَى الطَّرِيقِ، فَحَلاََّهُ. 5 فَقَالَ لَهُمَا قَوْمٌ مِنَ الْقِيَامِ هُنَاكَ:«مَاذَا تَفْعَلاَنِ، تَحُلاََّنِ الْجَحْشَ؟» 6 فَقَالاَ لَهُمْ كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ. فَتَرَكُوهُمَا. 7 فَأَتَيَا بِالْجَحْشِ إِلَى يَسُوعَ، وَأَلْقَيَا عَلَيْهِ ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِ. 8 وَكَثِيرُونَ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. 9 وَالَّذِينَ تَقَدَّمُوا، وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ:«أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! 10 مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». (عدد 1-10).
فقد رأينا الرب أتخذ هنا لقب ابن داود وذلك الاسم يُنبئ عن إتمام المواعيد وعن يسوع إنما هو ملك إسرائيل الحقيقي أما الاسم الذي تلقب بهِ بالعادة والأفضلية فابن الإنسان. فهذا لهُ دلالة أعم جدًا لأنهُ يُخبر عن حق بسلطان وسيادة أعظم جدًا مما لابن داود. وذلك مما يجعل للمسيح علاقة متينة مع كل البشر ويؤكد حقهُ والأمجاد المختصة بابن الإنسان بحسب مشورة الله. ونرى في المزمور الثاني اللقبين معًا وهما ابن الله الاسم الذي أُعطي ليسوع بحسب كونهِ وُلِدَ هنا في هذا العالم، وملك إسرائيل وإن كان قد رُفض. ثم ان نرى في المزمور الثامن بعد إيضاح حالة شعبهِ في المزامير الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع. مجدهُ وأتساع سلطانهِ بحسب كونهِ ابن الإنسان المُسلط على كل شيء. ونرى أيضًا في دانيال الإصحاح السابع انهُ أُتي بابن الإنسان أمام القديم الأيام فقبل من يدهِ السلطان على كل الأمم ومعنى ذلك انضمام هذين اللقبين معًا في تسلطهِ المطلق على كل المسكونة لا بل على كل شيء أيضًا لان المسيح هو ابن الإنسان والقديم الأيام أيضًا انظر (رؤيا 13:1، 14).
ففي الإصحاح الحادي عشر، والثاني عشر من إنجيل يوحنا نرى بعد رفض البشر ليسوع ان الله شاء بتأدية شهادة كاملة لهُ في صفاتهِ وألقابهِ الثلاثة: وهي ابن الله، ابن داود، ابن الإنسان. فالأولى- تُمثلها إقامة لعازر، الثانية- د***هُ إلى أورشليم راكبًا على جحش، الثالثة- لما أتى اليونانيون طالبين ان يروا يسوع. «فحينئذ قال السيد: قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم: ان لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» فلأجل الحصول على هذه الألقاب اقتضى ان يصاحب شركاءَهُ معهُ وان يموت.
أما في هذا الإصحاح الذي نحن بصددهِ فيتخذ اللقب الثاني ويقدم نفسهُ للأمة اليهودية المدة الأخيرة على الأرض وفقًا لنبوة زكريا وسيعرض نفسهُ فيما بعد بالمجد ويتسلط على كرسي داود أبيهِ. أما الآن فكل ما يعملهُ إنما هو تقديم نفسهُ لشعبهِ كالذي وافى لإتمام المواعيد المتجهة نحوهم. وهو قد تيقن النتيجة وانهُ على وشك اتخاذ اللقب الاسمي وهو ابن الإنسان وذلك لكي يرافق شركاءَهُ في الميراث حين يتقلد بسلطتهِ العظمى ويملك بحسب مشورة الله أبيهِ، ولكن كانت الضرورة تدعو لأن تؤدي هذه الشهادة من قِبل الله إلى الناس من الجهة الأخرى بأفواه الأطفال والرضع لنوال المجد والتسبيح وعلى هذه الكيفية قد سبق فأنبأ عن توطيد مملكتهُ بالقوة فيما بعد.
فهذا الملك كان عمانوئيل السيد نفسهُ ويسوع تصرف هنا على هذه الصفة فبعث بتلميذين ليأخذ أتانًا وجحشًا معهما من قرية مجاورة فإذا سأل أربابه التلميذين عما يفعلان وجب ان يُجيباهم حسب أمر يسوع ان السيد محتاج غليهِ فيُجاب الطلب على الفور. فكل ذلك كان لكي تتم كلمة الأنبياء لان دائمًا نرى في هذا الإنجيل الحقائق معروضة لدينا ليس فقط كنتائج النعمة الإلهية كما أنها هي كذلك بالحقيقة ولكنها ترد بمنزلة إتمام للمواعيد الموعود بها شعبهُ.
فمن ثمَّ أتى التلاميذ بالأتان والجحش ثم دخل يسوع أورشليم كملك فتقدم واحتاط بهِ جمع عظيم قد تحرك بقوة الله. فإنهم كانوا قد رأوا آياتهِ ولا سيما قيامة لعازر وفرشوا ثيابهم في الطريق وقطعوا أغصانًا من الشجر ليلقوها في سبيلهِ ويعطوهُ مقام مَلك ومجدهُ وبالواقع ليعترفوا بهِ انهُ هو المَلك مسيَّا. فيا لعظمة ذلك المشهد! الذي لم تكدرهُ احتجاجات البشر الفلسفية ولم يكن نتيجة أعمال المسيح العجيبة وان كان أثمارها بل إنما كان من تأثير قوة الله في عقول الجموع وإلزامهِ إياها ان تشهد إلى وقت وجيز لابن الله المحتقر. وقد أُقتبست أيضًا شهادة المزمور المئة والثامن عشر تلك نبوة جديرة بالذكر عن أيام إسرائيل الأخيرة وقد تكرر اقتباسها في العهد الجديد. ويسوع نفسهُ يذكر ما يسبق الآيات التي وضعها الله بأفواه الشعب أي ان الحجر الذي رفضهُ البناؤون قد صار رأسًا للزاوية.
فهنا الجموع استخدموا الآية المليئة بالإقرار بابن داود بواسطة بقية إسرائيل. وهي أُوصنا كلمة عبرانية معناها خلص الآن وهي كلمة جرى عليها الاصطلاح لطلب معونة الرب حين الاعتراف بالمسيح الحقيقي أو بمسيَّا. أُوصنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب أُوصنا في الأعالي. فهذا الهتاف إنما هو كناية عن الاعتراف بيسوع كابن داود، ومسيَّا. وهكذا كانت مشيئة الله ان لا يترك ابنهُ بدون شهادة صريحة وبدون ان يفوز بالكرامة على هذا الأسلوب. ثم تصرَّف يسوع في أورشليم وفقًا لهذا المركز والمقام.
11 فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ، وَلَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى، خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 12 وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ، 13 فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ التِّينِ. 14 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا:«لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!». وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَسْمَعُون. (عدد 11-14).
ثم عاد إلى المدينة نظر شجرة التين على الطريق فطلب ثمرًا ولم يجد عليها إلا ورقًا فقط فلعنها قائلاً: لن يأكل منكِ أحد ثمرًا بعد فيبست شجرة التين في الحال. فهذا إنما كان كناية عن إسرائيل بحسب العهد القديم وكناية عن الإنسان بحسب الجسد. وهذه هي الحالة الإنسان الذي اتفق الله كل الوسائل والوسائط لخلاصهِ حتى اسلم ابنه الوحيد المحبوب لاستخراج شيء من الخير من قلبهِ والبلوغ إليهِ ليردهُ إلى نفسهِ وإلى السبيل القويم. غير ان تلك الوسائل قد ذهبت كلها عبثًا. كان قد عفا عن الشجرة هذه السنة أيضًا بتوسط خادم الكرم (لوقا 9:13) وحفر حولها وسمدها ولكنها لم تأتِ بثمر فماذا كان يستطيع ان يفعل لكرمهِ ولم يفعلهُ؟ فنحن لسنا خطاة فقط بل لم نزل كذلك بعد استخدم الله كل الوسائط الممكنة لإرجاع قلوبنا إليهِ فهذا مما يبين لنا أهمية تاريخ إسرائيل وتاريخنا أيضًا مبنيًا على شهادة الله وينبئنا عن صبرهُ العجيب وعن طرقهِ الفائقة. تلك بينة صريحة لا يسمو عليها إلا شهادة محبتهِ القاطعة بموت المسيح. فهذا مما يزيد إثمنا لدى الله إذا صررنا على عدم الإيمان. فقد كان على الشجرة ورق كثير ولكن لم يكن عليها ثمر قط. ذاك يُمثل الإدعاء بالتقوى والمظاهر الدينية أما الثمر الحقيقي الذي يطلبهُ قلب الله ويرجو أن يراهُ في خاصتهِ فمعدوم وغير موجود في الإنسان.
فقد قضى إلى الأبد على إسرائيل بحسب العهد القديم أي على الإنسان بحسب الجسد لان الله غرسهُ واعتنى بهِ فلن يأتي بثمر لهُ؛ لأن بطلانهُ وضح وضوحًا صريحًا وظهر عجزهُ عن إيفاء عناية الله بهِ. لا جُرم ان الإنسان مقضي عليهِ طبعًا بالجدب والمحل الأبدي. فهذه المعجزات جديرة بالاعتبار لان عجائب المسيح ليست فقط أدلة على قوتهِ وسلطانهِ بل بينات على محبة الله. فالقوة الإلهية كانت حالة هنالك ولكنها قوة للشفاء والتحذير من سلطة إبليس والموت ونقص كل نتائج الخطية في العالم غير ان ذلك جميعهُ لم يُغير قلب الإنسان بل بالع** قد أثار بإعلان حضرة الله ة العدوان الكامن فيهِ نحو الله. ذلك عدوان كثيرًا ما كان مكتومًا في أعماق القلب حتى عن الإنسان نفسهِ فلا نرى بين كل آيات المسيح آية لها صفة القضاء والدينونة مثل هذه المعجزة.
فقد ظهرت حقيقة بهذه الحادثة كل الظهور وهي ان الإنسان ينبغي ان يُولد ثانيةً وان ينال حياة آدم الثاني* ويمكن لإسرائيل أيضًا ان يفوز بالرجوع بالنعمة حسب العهد الجديد غير ان الإنسان بنفسهِ حسب الجسد المقضي عليهِ بعد كل ما فعل لأجلهِ للإتيان بشيء صالح. فلا يخلص الإنسان ويخوَّ لهُ الحياة الأبدية إلا الله وحدهُ. فعندما يقبل الإنسان المسيح ينال حياة فيأتي بثمر. فالشجرة قد طعمت والله يطلب ثمرًا في الغصن المُطعَمْ لكنهُ خذل الإنسان في الجسد وانفصل عنهُ ولم تبقَ علاقة بينهُ وبين الله إلا العلاقة المختصة بالدينونة التي لابد من وقوعها عليهِ لأجل خطاياهُ. فالشكر لله لانه شاء ان يعتقهُ بالنعمة من هذا الرب، وينقذهُ بدم ابنهِ يسوع ويلدهُ ثانيةً ويصالحهُ مع نفسهِ ويتبناهُ كولدهِ ويجعلهُ بكر خلائقهِ.
فيا لعظمة ذلك المشهد الذي يدخل بهِ المسيح ابن داود! عمانوئيل بيتهُ على الأرض حيث عيناهُ الطاهرتان تنظران كل ما يفعل فيهِ الإنسان ويعلن غيظهُ ضد تدنيس ذلك المكان وجعلهُ مغارة لصوص. فقد دافع عن مجد يهوه وسلطانهِ بطرد أولئك الذين دنسوا بيتهُ. ثم وجد نفسهُ وجهًا لوجه تلقاء خصومهِ الذين توافدوا زمرةً فزمرة للقضاء عليهِ فلم يعاينوا إلا النور والحكمة الكاشفة الحجاب عن خبث نواياهم فبدلاً من ان يقضوا اصبحوا مقضيًا عليهم فتخلص السيد من دسائسهم وتفرغ لمتابعة عمل النعمة والفداء في حضرة خصومهِ الذين أُرغموا على الصمت. غير ان كل فئة من أولئك القوم أظهرت شرها ومقاومتها لله قبل أن يحكم الرب عليها بأجوبتهِ ثم بعد ذلك أخذ يخاطب تلاميذهُ عن الصلاة التي يغلبون بها على الموانع التي سوف يضعها أولئك اليهود المقضي عليهم في سبيلهم لأنهم كانوا متقلدين بالسلطة والنظام الديني ومسلحين بها لمعارضة رسلهِ ومعا**ة أعمالهم وأما المبدأ الوحيد الموضوع لتصرف التلاميذ في خدمتهم فهو الإيمان الخالي من الريب والمصحوب بروح المسامحة والغفران كما يظهر فيما يأتي.
15 وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. 16 وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. 17 وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ:«أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». 18 وَسَمِعَ الْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. 19 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، خَرَجَ إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ. (عدد 15- 19).
نعلم من الأناجيل الأخرى ان المدينة كلها تحركت وسألت ماذا عسى ان يكون هذا؟ فقال الجمهور ان يسوع الناصري هو النبي الآتي فدخل يسوع الهيكل وطهرهُ بسلطان يهوه الحقيقي وطرد الذين دنسوهُ، وقضى على الأمة ورؤسائها بقولهِ: مكتوب ان بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموهُ مغارة لصوص ولكنهُ وإن كان حاضرًا في الهيكل بصفة يهوه لم ينفكَّ عن الحضور بنعمتهِ لسد احتياجات شعبهِ فشفى الأعمى والمقعد. غير ان تلك الشهادة لم تخرق حجاب عدم الإيمان السميك المغشى قلوب رؤساء الشعب عندما نظروا الآيات فلما سمعوا الأولاد يصرخون حنقوا فعلَّم المخلص تعليمًا مؤداهُ ان زمان الإقناع قد انقضى واستشهد بآية من المزمور الثامن تعني ان الله سبق فنظروا وأنبأ عن هذه الأمور وهي من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا فإذا كان الشعب قد رفضهُ واستخفت بهِ لم يتركهُ الله بدون التسبيح اللائق بشأنهِ من أفواه الأطفال.
أما الشعب فكان قد انقضى زمان نجاتهِ إلى ان تأتي نعمة الله القادر، وتعمل في إيقاظ بعضهِ في وسط الأرزاء الحالَّة عليهِ بسبب عدم الإيمان. فحينئذ تهتف تلك البقية المنتهية للتوبة مثل الأولاد أُوصنا لابن داود وما ذلك إلا من عمل الشعب يعني ان الله لا يعود يعرض على إسرائيل أو على الإنسان ان يحصل على بركة بموجب الشريعة أو شرط يَشرط عليهِ. فهذا ما أوضحهُ السيد في الحادثة التابعة. فلم يشأ المكوث في أورشليم المُتمردة العديمة الإيمان بل انطلق إلى بيت عنيا حيث كانت قد ظهرت قوة القيامة وحيث وجد قلبهُ المُحبُّ موضعًا وملجًأ للراحة بين البشر بعدما رفضهُ الشعب.
20 وَفِي الصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوْا التِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ الأُصُولِ، 21 فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ:«يَا سَيِّدِي، انْظُرْ! اَلتِّينَةُ الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!» 22 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ :«لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِاللهِ. 23 لأَنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ! وَلاَ يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. 24 لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ. 25 وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ، فَاغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ، لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ زَّلاَتِكُمْ. 26 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لاَ يَغْفِرْ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ. (عدد 20-26).
فلما عجب بطرس من يبس شجرة التين قال يسوع: ليكن لكم إيمان بالله لأن كل القوة المُضادة البادية لدى أبصار التلاميذ الضعفاء تضمحلُّ وتتلاشى أمام الإيمان. فهذا مبدأ خطير في سلوك المسيحي وخدمتهِ. ولكن لا يجب أن يخامر هذا الإيمان أدنى ريب بل لا بدَّ من الثقة الكلية بالله ولا ينبغي أن ينشأ من عاطفة الإرادة بل من الشعور بحضور الله ووساطتهِ. فحيثما وُجد الإيمان وتقدمت بهِ الطلبات ترتب على ذلك نتائج أكيدة لا مُحالة. ومع ذلك كُلهِ ليست حضرة الله إلاَّ كناية عن حضرة إله المحبة فحين نُصلي ونسأل تحقيق رغائبنا وإتمامها يجب أن نشترك معهُ روحيًا فحينئذٍ نشعر بقوتهِ بإجابة صلاة الإيمان وإذ ذاك يحلّ في القلب روح المغفرة للأعداء. فإذا كنت مثلاً حاقدًا على أعدائي وأضمرت لهم الانتقام لا أستطيع أن أرجو إجابة صلواتي حتى وإن سمعني الله يُجيبني بالقصاص لأن الله لا يستجيب في حالة كهذه بل يرفض هذه النية الشريرة كل الرفض حتى إذا شاء استجابة تلك الصلاة لا تأتي بالتأديب إلاَّ على أنفسنا. فالمولى عزَّ وجلَّ لا يتصرف بسيادتهِ إلاَّ وفقًا لصفاتهِ وطبيعتهِ الإلهية. فلننتبه جيدًا إلى هذا الموضوع لأن الله قد وضع لنا عرش نعمة لا عرش قضاء. فإذا أردنا أن نستمدَّ منهُ بركةً بالصلاة يجب أن نقترب إليهِ عند عرش النعمة من باب الرحمة ولا يليق بنا روح العدوان والانتقام. فلنحترز. فإننا إذا خامرنا شيءٌ من ذلك وجدنا أنفسنا حالاً عند عرش القضاء حيث خطايانا وقصوراتنا ظاهرة وطالبة القصاص علينا نحن قبل الكل. فلذلك ينبغي لنا أن نشعر دائمًا بحاجتنا الشديدة إلى النعمة ونظهرها لنحو الآخرين وحينئذٍ نفوز بأجوبة جيدة من قِبَل الله لصلواتنا وإن كانت الموانع والصعوبات عظيمة جدًّا في سبيلنا مثل الجبال فننقلها بالإيمان والصلاة.
27 وَجَاءُوا أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي الْهَيْكَلِ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ، 28 وَقَالُوا لَهُ:«بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هذَا؟» 29 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنَا أَيْضًا أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي، فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا 30 مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ أَجِيبُونِي». 31 فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ:«إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ 32 وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ». فَخَافُوا الشَّعْبَ. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. 33 فَأَجَابُوا وَقَالوا لِيَسوع:«لاَ نَعْلَمُ». فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا». (عدد 27-33).
ثم دخل يسوع أورشليم ثانيةً لأنهُ ما أراد أن يبيت في مدينة أسلمها الله للهلاك. فبدأ الآن يُراجع ويمتحن كل رؤساء الشعب الذين أشرت إليهم وشرع أولاً بامتحان السلطان المدَّعي بالسمو والارتفاع عن سلطانهِ. فمشى في الهيكل وإذا برؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ أتوا إليهِ وسألوهُ بأي سلطان تفعل هذه الأشياء ومَنْ أعطاك هذا السلطان. فمن ثمَّ نراهم يُنازعونهُ السلطان ويُصادرونهُ عليهِ. أما السلطة الرسمية الخارجية فكانت في أيدي رؤساء الكهنة. أما الحق والطاعة لله فكانا بيسوع. فقد كانت قوتهُ قد أُعلنت في جميع عجائبهِ ولكن لم يبدُ منها دليل على النقمة في الحال فإذ ذاك قد كان ضربًا من العبث إعطاء آيات أخرى لأن الأُمة قد قضى عليها ورأت آية بعد أخرى فقست نفسها في عدم الإيمان فحان زمان القضاء فلم يُجب يسوع أولئك الرؤساء عن سؤالهم رأسًا. كان هو قد غار على طهارة بيت أبيهِ وطهرهُ.
ثم سألوهُ بأي سلطان فعل ذلك. فلم يكن لهم شيءٌ من الغيرة على قداسة الله بل كانوا غيورين جدًّا على سلطانهم. ذلك يُصدق أيضًا على كثير من رؤساء الدين في أيامنا فإنهم يهتمون بسلطانهم لا بما لله. أما يسوع فلا يهتمُّ إلاَّ بسلطان الله وإن ما فعلهُ إنما كان نتيجة لذلك. فلو لم تكن ضمائر الرؤساء قد تقست لصمتوا، وإن كانوا لم يُسرُّوا بما فعلهُ الرب واعتراهم الخجل من الحالة التي كان عليها الهيكل المفوَّض لعنايتهم. ولكن بما أنهم كانوا قد رفضوا الرب لم يستطيعوا الاعتراف بسلطانهِ. فالأدلة والبينات كانت ضربًا من العبث من الآن فصاعدًا. غير أن حكمة يسوع الإلهية حملتهم على الاعتراف بعجزهم عن الحكم بمسائل تتعلق بالسلطان والشهادة الإلهية.
فسألهم في ما إذا كانت خدمة يوحنا المعمدان إلهية. فقالوا: إذًا أجبنا إيجابًا كنا كمَنْ أقرَّ بسلطان يسوع لأنهُ شُهد لهُ وإذا أجبنا إيجابًا سلبًا عرَّضنا سلطاننا للأخطار لدى الشعب. على أنهم كانوا يُسرُّون بالحصول على هذه الكرامة المفقودة من زمان مديد وهي قيام نبي في وسط إسرائيل. ولكن لك يُلائمهم الإقرار بخطاياهم. فانطفأ ذلك النور في قلوبهم على الفور. أما الشعب فكان لم يفتأ يحسب يوحنا نبيًا. وعلى ذلك لم يتجرأوا على الجواب إيجابًا أو سلبًا. ومن ثمَّ قد اعترفوا أنهم عاجزون عن الحكم بدعوى إنسان أعلن أنهُ تقلَّد خدمة من الله لأنهم ما استطاعوا أن يقولوا إذا كان يوحنا نبيًّا أو لا. فما دامت هذه الحالة حالتهم لم تكن حاجة لأن يُجيبهم يسوع ويقنعهم بشأن خدمتهِ أو يحسبهم في منزلة قوم تقلَّدوا سلطانًا إلهيًا. كان الله قد أرسل يوحنا المعمدان إليهم فلم يستطيعوا أن يحزموا بإرساليتهِ وإذ ذاك فمن أين لهم وجه أن يسألوا يسوع عن إرساليتهِ؟ كأن لهم القدرة على الجزم بها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 3:57 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع



الأصحاح الثاني عشر 

1 وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ بِأَمْثَال:«إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْمًا وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ حَوْضَ مَعْصَرَةٍ، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. 2 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ فِي الْوَقْتِ عَبْدًا لِيَأْخُذَ مِنَ الْكَرَّامِينَ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، 3 فَأَخَذُوهُ وَجَلَدُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغًا. 4 ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا عَبْدًا آخَرَ، فَرَجَمُوهُ وَشَجُّوهُ وَأَرْسَلُوهُ مُهَانًا. 5 ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا آخَرَ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ آخَرِينَ كَثِيرِينَ، فَجَلَدُوا مِنْهُمْ بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا. 6 فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضًا ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ ،أَرْسَلَهُ أَيْضًا إِلَيْهِمْ أَخِيرًا، قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي! 7 وَلكِنَّ أُولئِكَ الْكَرَّامِينَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ فَيَكُونَ لَنَا الْمِيرَاثُ! 8 فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ. 9 فَمَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ يَأْتِي وَيُهْلِكُ الْكَرَّامِينَ، وَيُعْطِي الْكَرْمَ إِلَى آخَرِينَ. 10 أَمَا قَرَأْتُمْ هذَا الْمَكْتُوبَ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ، هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ 11 مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا!» 12 فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا. (عدد 1-12).
إن عجز رؤساء اليهود وقصور فهمهم وضحا وضوحًا صريحًا. فقد ادَّعوا بالقضاء على يسوع غير أن الحكمة الإلهية الخارجة من فمهِ قضت عليهم وأرغمتهم على الاعتراف بعجزهم. فشرعَ السيد أن يُبين لكل رُتب اليهود في نويتهِ حالتهم الحقيقية وأوضح أولاً حال كل الشعب عمومًا. ولا يخفى أن إسرائيل كان كرم الرب فوضعهُ تحت عناية كرَّامين مُعينين ليأخذ أثمارهُ في حينها. فقد فعل كل ما يستطيع عليهِ لكرمهِ وكان يستحيل عليهِ أن يفعل أكثر مما فعل. وتمتع إسرائيل بكل الامتيازات والحقوق التي يمكن لأُمة أن تتمتع بها. ثم بعث السيد بعبيدهِ في إبان الثمر ليأخذ من الكرَّامين غلة الكرم. فإن الأنبياء طلبوا تلك الأثمار من الشعب بالنيابة عن الله الذي هو رب الكرم أما الكرَّامون فأخذوا عبدًا وضربوهُ وأخذوا آخر وقتلوهُ ورفضوهم جميعًا. وعلى هذا المنوال عامل إسرائيل خُدامهُ تعالى المُرسلين لإرجاعهم إلى سبيل الواجبات. فأرسل أخيرًا ابنهُ الوحيد المحبوب قائلاً: أنهم يهابون بني ولكنهم أخذوهُ وقتلوهُ وأخرجوهُ خارج الكرم. فإنهم أرادوا أن يملكوا الكرم بقتل الوارث الحقيقي.
فلنتأمل قليلاً بهذا المَثل فبأية مهابة وسكون أوضح السيد سلوك الأمة الإسرائيلية في الزمان العابر وتصرُّفها في الوقت الحاضر أيضًا. على انهُ كان متأهبًا كل التأهب للآلام وقد آتى لتجرُّع كأس الموت ولكن كان لابد لهُ من بيان سلوك أعدائهُ بيانًا جليًا. فقد أملأُوا مكيال إثمهم بأعين مفتوحة فيا لسوء حالة الأمة اليهودية! على أن الله سيترأف عليها بنعمتهِ الفائقة ويعيدها بعهد جديد إلى مقامها كشعب الله المعترف بهِ.
ان مرقس الإنجيلي يرد الحوادث بسرعة وإنما يدرج هنا العواقب المترتبة على خطية إسرائيل غير ان من الأناجيل الأخرى ان اليهود التزموا بجوابهم أن يفوهوا بدينونتهم الخاصة إذ فهموا كل الفهم معنى المَثل. فقد أنباهم الرب هنا عن حقيقة الأمر كما هي وما ذلك إلا الخراب والدمار المُتَحتم عليهما لرفضهم المسيح ابن الله. فإن سيد الكرم رب الجنود سوف يأتي ويُهلك أولئك الكرامين الأشرار ويسلم الكرم إلى آخرين.
ثم اقتبس الرب مرة أخرى من المزمور المئة والثامن عشر وسأل رؤساء الشعب سؤالاً يُشير إليهِ كل الإشارة وهو أما قرأتم هذا المكتوب؟ الحجر الذي رفضهُ البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا فما أجلى هذا الإعلان النبوي! للدلالة على حال إسرائيل والعواقب المترتبة عليها فإنهُ لهُ المجد أوضح بهذه الآيات الوجيزة مختصر التاريخ الإسرائيلي ووضعهُ على أتم منوال وبكلمات قليلة أعلن سلوك الأمة اليهودية من موسى حتى الصليب وخطيتها أيضًا نحو يهوه إلهها والمسيح والأنبياء والعواقب الهائلة الناشئة لها من ذلك وأفكار الله من نحوها. أي انهُ تعالى سوف ينزع منها كل امتيازاتها ويعطي الكرم إلى آخرين يعطونهُ الأثمار في حينها وقد أظهر انهُ بهذهُ الحقيقة العظمى وهي خطية الإنسان وعدم إيمان اليهود المدلول عليهِ برفض رب المجد وصلبهِ سيرتفع إلى يمين الله ويصير رأس الزاوية. ثم نرى بهذه الحادثة أيضًا كشف الحجاب عن أسرار العهد القديم المدرجة في النبوة لأن نشاهد بلمحة بصر إبلاغ طرق الله كلها للفهم الروحي. فلا تعلن لنا أفكار الله وأعمال الإنسان إلا الحكمة الإلهية والوحي السماوي فهما الواسطة لإبلاغ ذلك للبشر.
فقد رأينا ان كل رتب اليهود أتت ليقضي عليها فتقدم الفريسيون والهيروديسيون أولاً- ليصطادوهُ بكلمة؛ لأنهم لم يتجرأوا ان يلقوا عليهِ يدًا على أنهم كانوا يرغبون في ان يفعلوا ذلك لمعرفتهم ان مَثل الكرم الكرامين إنما قيل عليهم. غير ان الشعب كانوا لم يزالوا تحت سطوة كلامهِ وأعمالهِ فكانوا يهابونهُ رغمًا عن عدم إيمان قلوبهم الغليظة. فكان الرؤساء يخشون الشعب فكانوا بذلك عبيدًا لا لاميالهم الطبيعية وعدم إيمانهم فقط بل للشعب نفسهِ أيضًا فكانوا يجزعون من ان يفعلوا شيئًا ضد يسوع معتقدين ان الشعب ينحاز إليهِ فلم تكن لهم قوة الإيمان ولا الحرية التي هي نتيجة الاستقامة بل كانوا يُراعون رضى الشعب.
13 ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. 14 فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» 15 فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ.» 16 فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ:«لِقَيْصَرَ». 17 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.18 وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: 19 «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ امْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاَدًا، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ امْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. 20 فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ الأَوَّلُ امْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. 21 فَأَخَذَهَا الثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضًا نَسْلاً. وَهكَذَا الثَّالِثُ. 22 فَأَخَذَهَا السَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضًا. 23 فَفِي الْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ». 24 فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمْ:«أَلَيْسَ لِهذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ؟ 25 لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ. 26 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلاً: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ 27 لَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذًا تَضِلُّونَ كَثِيرًا!». (عدد 13-27).
إن ساعة آلام الرب لم تكن قد أتت. فأرسلوا جواسيس يصطادونهُ بكلمة؛ لأن الفريسيين كانوا مفعميين بالكبرياء والافتخار بامتيازات أمة اليهود ومتأهبين لإثارتها ضد الرومانيين وكانوا يستخدمون التمليق والتدليس لأهاجة أطماعها، وكانوا خاضعين لغير الأمم بسبب خطاياهم ولم يكونوا يُحسبون بعد في منزلة شعب الله. أما مسيا الموعود بهِ فكان قد آتى من قِبل الآب فلم يشأوا أن يقبلوهُ لأنهُ أعلن الله ومثَّلهُ على الأرض ولم تصبو قلوبهم القاسية لله بل أرادوا ان يتباهوا ويُمجدوا أنفسهم بأنهم شعب الله ولكنهم لم يقبلوهُ تعالى ويخضعوا لهُ. فكان عصيان قلوبهم على الله مقترنًا بتمردهم القلبي على حكومة الأمم وكبريائهم الوطنية.
أما الهيرودسيين فبالع** لأنهم قبلوا السلطة الرومانية ولم يتعبوا أنفسهم بامتيازات إسرائيل بل كانوا يصبون جدًا للفوز برضى ذلك الشعب القوي الذي ضبط إسرائيل تحت نير دينونة الله الثقل. فلو قال الرب: أنهم لا يجب ان يؤدوا الجزية لأظهر نفسهُ عدوًا للسلطة الرومانية وباَدرَ الهيرودسيين للشكوى عليهِ، ولو قال بلزوم تأديتها لم يكن هو المسيا المنتظر ان يُعتقهم من النير الروماني المقوت؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون بإمكانية وجود وسيلة أخرى للنجاة ومن ثم كان يفقد رضى الشعب ومحبتهم. فقد اتفق الهيرودسيون والفريسيون واجتمعت كلمتهم للإيقاع بيسوع غير ان الحكمة الإلهية لا تعجز عن حل المشاكل العسرة.
فكان ينبغي ان اليهود يخضعون للنير الذي وضعهُ الله نفسهُ على أعناقهم إلى ان يُحررهم الله بنعمتهِ، وكان يجب ان يقبلوا التأديب من يدهِ، ولكنهم لم يفعلوا هذا ولا ذاك لأنهم كانوا مرائين أمام الله ومتمردين نحو البشر فطلب منهم يسوع ان يروهُ قطعة من النقود المرسوم عليها رأس الإمبراطور وسألهم لمن هذه الصورة والكتابة فأجابهُ اليهود: لقيصر. فقال لهم: يسوع أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله فذهب اليهود منذهلين من حكمتهِ الباهرة وما كان ذلك الجواب إلا عادلاً لأنهُ لم يدفع شكاويهم فقط بل أعلن حالة إسرائيل الحقيقية ودينونة الله عليهِ.
ثم آتى الصدوقيون بعدئذ وهم طائفة أخرى من اليهود لا تعتقد بعالم غير منظور ولا بالملائكة ولا بالقيامة بل كانوا يذهبون إلى ان الله أعطى الناموس لشعبهِ إسرائيل وان هذا هو كل الوحي والإعلان. فكانوا قد أعتقادوا على مجادلة الناس ولم يتوقعوا ان يصادفوا الحكمة الإلهية ولا قوة كلمة الله المستحيلة مقاومتها. فأتوا بذكر حادثة صورها لهم الوهم فلو صدقت لجعلت تعليم القيامة أمرًا متعذر وجدير بالاستخفاف ؛ لأنهم خالوا ان نسبة الإنسان وحالهُ في هذا العالم تستمر ان على ما كانتا عليهِ في العالم الآتي. فهذا هو طبقَ ما يفعلهُ الناس لا سيما الذين يميلون إلى الكُفر فإنهم يمزحون أفكارهم مع كلام الله وبما ان هذه الأفكار لا تتفق مع تلك فيظنونها غير مفهومة ويرفضونها، وأما قيامة الأموات فمن الحقائق الأساسية الجوهرية التي يجب الاعتقاد بها فالسيد لم يُسَكت أعدائهُ فقط بحكمة جوابهِ واكتشاف ريائهم بل أعلن الحق نفسهُ الوارد تحت حجاب في تعليم العهد القديم مثبتًا إياهُ بقوة سلطانهِ ذلك لحق خطير أي القيامة وعليهِ تتعلق كل الأشياء فإنها برهان على أن يسوع هو ابن الله وان ابن الله قَبِلَ ذبيحتهُ وهي أيضًا كناية عن غلبة الموت وأن كل الأمور المختصة بحال الإنسان الساقط السيئة قد تُركت، وغض النظر. عنها ودخل الإنسان حديثًا حسب مشورة الله في حالة جديدة وفي أمجاد أبدية وأصبح بشبه صورة المسيح. لا شك بأن الأشرار يقومون للدينونة ولكن الرب إنما ينظر هنا إلى خاصتهِ وأحوالهم ولاهتمام بهم كما في (كورنثوس الأولى إصحاح 15) فكأنهُ قال: ان العهد القديم يتضمن إعلان هذا الحق. أما النظر لشخصهِ فقد تنبئ عنهُ صريحًا في المزمور السادس عشر. ولكن يُقال ان الصدوقيين لم يعتقدوا إلا بناموس موسى. فذلك الناموس يتعلق أولاً- بما أسسهُ الله على الأرض لشعبهُ الأرضي أما الحياة وعدم الفساد فأُعلنا بالإنجيل وبقيامة يسوع نفسهُ غير ان النور في العهد القديم وإن كان أحيانًا تحت غمام لكنهُ لم يكن ناقصًا للسُيَاح، والغرباء على الأرض الطالبين موطنًا أفضل ومدينة سماوية. فالتعليم الوارد هنا يُشير إلى سيادة الله وحكومتهِ على الأرض. غير أن قلوب المؤمنين تَجد بها بالإيمان كل ما تفتقر إليهِ للاستدلال على وطن أبدي وسماوي.
ان الفريسيين آمنوا بالقيامة ولم يكونوا أغبياء بفهم هذه الحقيقة. غير أن السيد أراد أن يُبين ان الصدوقين إذا كانوا يقبلون الناموس فقط فالناموس نفسهُ المُعطى من الله كان كافيًا لإنارة الفهم الروحي وحملهِ على توقُّع أمور أفضل من الأشياء الأرضية وأن يزيد علاقتهُ معهُ تعالى زيادة أعظم مما يستطيع الإنسان ان يتمتع بها في سلطة الله على العالم أو على شعبهِ وإن كان كانت هذه السلطة مما لا ريب فيهِ. ثم عنف الرب الصدوقيين تعنيفًا عامًا لجهلهم الكتب وقوة الله وأعلن أولاً- هذا الحق وهو أن الإنسان حالما يُقام من الأموات يكون مثل الملائكة ولا علاقة لهُ بالزواج. ثم أوضح نسبة الله للإنسان الفائقة بحياة وراء الموت فينشأ من ذلك بالضرورة تعليم القيامة؛ لأن الإنسان مركب حسب مشورة الله من روح وجسد. فإبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا قد أسلموا الروح مذ زمن مديد غير أن الله لم ينفكَّ عن كونهِ إلهًا لهم فمن ثمَّ كانوا لم يزالوا أحياء لهُ لأن الموت إنما يستولي على الجسد إلى حين ولا يستطيع ان ينقص علاقة الروح مع الله فإذًا لابد من إقامة أجساد الذين هم خاصة الله.
فالصدوقيين المعتقدون بناموس موسى فقط كانت تعوزهم بينة صريحة على هذه الحقيقة مقتبسة من الناموس نفسهِ. أما نحن فيهمنا فهم هذه الحقيقة أيضًا كيفما كانت علاقتها مع الصدوقيين وعلينا ان نذكر ان الله لما دخل منذ البدء بنسبة مع الإنسان ودخلت الخطية والموت جعل تعليم القيامة أساسًا أوليًا في جميع إعلاناتهِ. ولا أساس آخر حقيقيًا للبركة فإن المواعيد نفسها المعطاة لإسرائيل إنما كانت مؤسسة على هذا الحق ولا سيما إتمامها انظر (أعمال الرسل 34:13) فالأمر الأول المُعلن بالإنجيل مؤسس بوحي الله الأول الصريح على نسبتهِ تعالى للبشر تلك نسبة مقترنة كل الاقتران بالفداء على أنها كانت لإسرائيل على سبيل الرموز ولكنها تمت إتمامًا حقًا بالمسيح ومؤبدًا فكما أن حق الديانة المسيحية العظيم اعني بهِ حالة الإنسان الجديدة قد توطد بكلمة الله كذلك أيضًا كمال الناموس الذي هو دستور الواجبات الإنسانية قد أنجلى جلاء بينًا كما سيظهر في الفصل القادم.
28 فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ:«أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ:«إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. 30 وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. 31 وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». 32 فَقَالَ لَهُ الْكَاتِبُ:«جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. 33 وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ». 34 فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ:«لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ! (عدد 28-34).
فسمع أحد الكتبة المحاورة الجارية بين الرب والصدوقيين وعلمَ انهُ أجاب بحكمة إلهية حقيقية فدنا منهُ وسألهُ أية وصية هي أول الكل. فقد ذهب الكتبة إلى ان الوصايا تمتاز عن بعضها قيمة وأهمية وأن بعضها يسمو على بعض لينال الإنسان بمجموعها البر المطلوب منهُ البلوغ إليهِ فأجاب الرب: الآن هذا السؤال جوابًا صريحًا بدون ان يحوَّلهُ لتحيير سائلهُ بل شادَ الدعامتين العظيمتين المتعلقة عليهما المسئولية الإنسان وهما وحدة الله وواجبات الإنسان نحوهُ تعالى ونحو قريبهِ فعلى هذا بُنىَ إيمان إسرائيل وواجباتهِ نحو الجميع. فلم يقتبس السيد الوصايا العشر بل مبدأ أي الناموس المقترن بواجبات الإنسان جميعها. فقد علمَ لهُ المجد كيف يجلوها ويُعلنها من تحت حجاب الوحي الإلهي وفقًا لما ورد في (تثنية 4:6؛ 12:10؛ لاويين 18:19)
فلم يعوز الرب شيء من معرفة الواجبات الإنسانية بل كمل بهِ ذلك ككمال النعمة والمحبة الإلهية أيضًا. لانه كان كإنسان يشعر شعورًا تامًا بالمسئولية الإنسانية نحو الله، والقريب أيضًا فما أجمل النظر بهذه الكمالات في شخص المسيح! فأن نعمة الله ومحبتهِ ظهرتا في حياتهِ كلها كما رأينا. ولكنا نرى هنا قانون سلوك الإنسان وواجباتهِ على الأرض حسب الناموس ليس كما كان معروفًا عند البشر أي الوصايا العشر التي هي أول ما يخطر في بال الإنسان بل المبادئ المقترنة في أكمة مختلفة في أسفار العهد القديم التي كان الرب يُفهمها كونهُ حاويًا كمال الناسوت لدى الله ومظهرًا للكمال الإلهي لدى البشر. فقد أدرك قلبهُ الأمر الواحد أما التعبير عن الأمر الثاني فقد نشأ طبعًا من ذلك القلب نفسهُ
فتأثر ضمير الكاتب وقلبهُ وشهد بكمال جواب الرب وزاد على ذلك بقولهِ: ان القيام بذلك أفضل من المحرقات والذبائح. فلم يكن بعيدًا عن ملكوت الله لآن القلب الفاهم أفكار الله عن الإنسان يحب ما يحبهُ تعالى ويصبو إليهِ غير ان الإنسان البالغ إلى حالة كهذه يعسر عليهِ بعد ان يقبل قبولاً تامًا ما يعلنهُ الله لخير شعبهُ وبركتهُ. فلم يتجاسر أحد منذ الآن ان يسألوهُ سؤالاً؛ لأن حكمة الله أسمى من مدارك قلوبهم.
35 ثُمَّ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ:«كَيْفَ يَقُولُ الْكَتَبَةُ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ؟ 36 لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. 37 فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ابْنُهُ؟» وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ.38 وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ:«تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، 39 وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. 40 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».41 وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. 42 فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. 43 فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْجَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، 44 لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا». (عدد 35-44).
أما السيد فسألهم في نوبتهِ سؤالاً يتعلق على جوابهِ حق جوهري مختص بشخصهِ لهُ المجد وبحالتهم الطبيعية لدى الله وهو المسيح ابن مَنْ هو؟ فإن اليهود كانوا يقولون انه: ابن داود ذلك مما لا ريب فيهِ. غير أن السيد قال أيضًا: فداود نفسهُ يدعوهُ ربًا فمن أين هو ابنهُ؟ فيسوع كان ابن داود ولكن لابد لهُ ان يجلس عن يمين الله بالطبيعة الإنسانية ذلك هو سر المسألة كلها. أما نسبتهُ لليهود فكانت قد انقضت بحسب الجسد. فقد حضرت لديهِ فرق اليهود كلها فقضى على جميعها قضاءً عادلاً.
ثم عنف الرب الكتبة الذين أفسدوا كلمة الله وحرفوها وهم يدَّعونَ تفسيرها. فقد كانت لهم صورة التقوى وطلبوا مجدهم الذاتي وسلب أموال الأرامل اللواتي تقربوا إليهن تحت رداء التقوى والدين. ولذلك كانت دينونتهم أشد هولاً وورعًا. غير ان السيد لا ينسى خاصتهُ في وسط رياء القوم المتظاهرين بالتدين والتقوى فربما أخطأ هؤلاء وربما ان فلس الأرملة كان من الدراهم المعطاة ليهوذا الخائن ولكنهُ كان معطى للرب بغض النظر عن ذلك الفلس المعطى بخصوص نية وسلامة تسلب بل شهد بمحبتهِ لسخاء تلك الأرملة البائسة وكرامة صنيعها. فالأغنياء كانوا أعطوا كثيرًا أما الأرملة فقدمت نفسها لله كذبيحة حية فقد أعطت كل معيشتها فربما كانت تستطيع ان تستخدم وسائل أخرى أفضل ولكنها أعطت الفلس للرب من أعماق قلبها فقبلهُ منها كل القبول. ذلك أمر جوهري علينا ان نذكرهُ ونتأمل بهِ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 4:01 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح الثالث عشر 

1 وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَامُعَلِّمُ، انْظُرْ! مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ! وَهذِهِ الأَبْنِيَةُ!» 2 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«أَتَنْظُرُ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». 3 وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تُجَاهَ الْهَيْكَلِ، سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى انْفِرَادٍ: 4 «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هذَا؟» 5 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَابْتَدَأَ يَقُولُ:«انْظُرُوا! لاَ يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. 6 فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. 7 فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا، لأَنَّهَا لاَبُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. 8 لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاضْطِرَابَاتٌ. هذِهِ مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ. 9 فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. 10 وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ. 11 فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلاَ تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلاَ تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبِذلِكَ تَكَلَّمُوا. لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ. 12 وَسَيُسْلِمُ الأَخُ أَخَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَالأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ الأَوْلاَدُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. 13 وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وَلكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. 14 فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي. *لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ* فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، 15 وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ إِلَى الْبَيْتِ وَلاَ يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا، 16 وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. 17 وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! 18 وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. 19 لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ إِلَى الآنَ، وَلَنْ يَكُونَ. 20 وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ الرَّبُّ تِلْكَ الأَيَّامَ، لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ، قَصَّرَ الأَيَّامَ. 21 حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. 22 لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، لِكَيْ يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا. 23 فَانْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ. (عدد 1-23).
أننا قد رأينا دينونة القوم، وكيف أن الله أحضر بعنايتهِ كل فئة إلى حضرة السيد فقضيّ على كلٍ منها ورأينا أن كل فرقة قد دينت أدبيًا بكلمة الله، وبحكمة يسوع الفائقة. غير أن الإثم الباعث على إجراء ذلك القضاء لابدَّ أن يسبّب مصاعب في سبيل التلاميذ. فكان عليهم أن يسيروا في طريق مليء بالأخطار. فحذَّرهم لهُ المجد وأراهم كيف يستطيعون الفرار من تلك الدينونة المُزمعة أن تلمّ بالشعب المحبوب لأجل خطاياهُ. فالرب حينئذٍ لا يكون حاضرًا بالجسد لإرشادهم غير أن قلبهُ المُحب لم يتركهم في الجهالة بل أنباهم عن السبيل، والمُشاق التي كانت تترصدهم. فالشهادة التي أداها كان من شأنها أن تجعل تلك المصاعب والأخطار دليلاً عن صحة كلامهِ، وتشجيعًا لقلوبهم حين يجدون أنفسهم في قلق واضطراب.
غير أن الرب لم يقتصر في كلامه على القضاء العتيدان يتمّ بل أوضح طرق الله العتيدة أن تُكمل إلى حين إتيانهِ إذ ينال إسرائيل البركة أيضًا بعد أن تلمّ بهِ تلك الدينونة ولا تُترك منهُ إلاَّ بقية فقط وتباد قوة الوحش أي ممالك الأمم ويُقيَّد إبليس، ويستريح العالم في سلام وأمن. على أن هذا القول ليس إلاَّ بمنزلة تحذير لتلاميذهِ. لأنهُ لا يوضح هنا أحوال الملكوت مدة الألف سنة حين تكون الراحة التامة قد حلَّت على المسكونة بل إنما ينبئُ التلاميذ الاضطرابات التي ستسبق ذلك.
أما التلاميذ فلأنهم كانوا قد تعودوا أن يروا الهيكل بيت الله، ومركز ديانتهم المجيد أشاروا وهم متعجبون إلى جمال البناء، وعظمة الحجارة فانتهز الرب الفرصة كما جرت عادتهُ لإبلاغهم أفكار الله بشأن تلك الأزمنة، وحال تلك الأمة الأثيمة فأنبأهم صريحًا عن خراب الهيكل، وأن تلك حادثة حقيقية، وتكلم عن حال الشعب إلى حين إتيانهِ بحسب تعلقها مع خدمة تلاميذهِ. فما قيل يضارع بمعنى عام الأقوال الواردة في إنجيل مَتَّى بهذا الصدد. غير أن الروح القدس يرينا الرب هنا كأنهُ مُشتغل بتعلَّيم تلاميذهِ بصفاتهِ كنبي، ومُعلَّم، ولا يشرح أمجادهُ كملك إسرائيل وديان الأمم كما في إنجيل مَتَّى.
فنرى هنا تعليمًا عامًا كما في إنجيل مَتَّى يستمرُّ إلى ختام زمان النعمة المُعلنة ثم ذكر علامة خراب أورشليم الأخيرة الخاصة التي تسبق إتيان الرب بالمجد. فهذا الاهتمام المُتعلق بشهادة التلاميذ وخدمتهم يوافق صفات هذا الإنجيل الذي يبين لنا تاريخ خدمة الرب نفسهِ. فلم يُجبْ يسوع تلاميذهُ على هذهِ المسألة على الفور بل حذرهم من الأخطار التي تعترضهم في خدمتهِ بعد إنصرافهِ. فأن الشيطان سيقيم مُسحاءَ كذبة ليخدعوا اليهود، وكثيرون سيخدعون. ومن واجباتهم أن ينتبهوا لهذا الأمر. وستحدث حروب وأخبار حروب، ولكن لا ينبغي أن يقلقوا من ذلك فأن هذه الأشياء لابدَّ من حدوثها، ولكن ليس المُنتهى بعدُ. فأن هذه بداءة الأحزان فقط، وليست نهايتها.
أن الرب لم يتكلم هنا عن خدمة بولس الرسول الخصوصية المُتعلقة بإبلاغ بشارة الخلاص باسم المسيح إلى جميع الأمم وبتأسيس الكنيسة المسيحية بل عن خدمة التلاميذ الاثنى عشر بين اليهود. فقط ينبغي أن يكرز بالإنجيل لكل الأمم قبل النهاية. ونعلم أن ذلك إنما هو إنجيل الملكوت كالذي كُرز بهِ أثناء حياة الرب. فالآيات الواردة هنا تدل على أنباء بسيط عن شهادة الإنجيل المُسلة إلى الأمم قبل المُنتهى. غير أن العاقبة المترتبة على تلك الشهادة التي سوف يؤديها التلاميذ تتعلق بالاضطهاد المُزمع أن يلمّ بهم. فأنهم سيُضربون في المجامع، ويُشكى عليهم أمام ملوك وولاة شهادة لهم. فهذه هي الواسطة التي يستخدمها الله لإبلاغ الإنجيل المملوك ولعظماء الأرض. فالكارزون ليسوا من عظماء العالم ومن واجبات تلاميذهِ أن يحافظوا دائمًا على صفاتهم الحقيقية. فأنهم سيقفون بهذه الصفات نفسها بمنزلة أسرى لدى الملوك ليؤدوا شهادةً عن إيمانهم.
وعلى هذه الصفة وقف بولس أمام مجمع اليهود وأما فستُس وأغريباس ثم أمام قيصر غير أن نتيجة الكرازة بالإنجيل ليست كل المطلوب. فأن إعلان الله بشخص المسيح أو بالكلمة المكروز بها لتحرّك عدوان القلب الإنساني. فما دام هذا الإعلان مكتومًا لا خوف من القلاقل والمقاومات، ولكن حين يُعلن الله ينهض الإنسان لمقاومة سلطانهِ، ولمضادة الأثقال التي يضعها هذا الإعلان على الضمير المضطرب، وكلما زادت هذه العلاقة اشتدَّت البغُضة، وعظمت. ولا يُخفى أن هذا العدوان يقطع كل علائق الطبيعة، ويفصم عراها فينهض الأولاد على والديهم، ويقتلونهم، ويكون التلاميذ مُبْغَضين من كل الناس لأجل اسمهِ.
فما أقطع هذه الشهادة على حال القلب الإنساني. لأنَّهُ إذا فاه الإنسان باسم يسوع، ونطق بمحبتهِ، وقال أنَّهُ أتى لخلاصنا هدمت بُغضة قلب الإنسان كل الحواجز فأبى الاعتراف بالمحبة الطبيعية وداسها تحت الأقدام. غير أن وقت النجاة لابدَّ من إتيانهِ إنما تلك نجاة أُناس على الأرض وحفظهم لكي يتمتعوا ببركات الملكوت هنا لا في السماء. على أن الأفضل لنا لو تجرعنا غصص المنون لأجل اسمهِ فأننا سننطلق لنكون معهُ. إنما الرب يتكلم هنا عن شهادة التلاميذ وخدمتهم في وسط اليهود. فإذا تأملنا بهذا الكلام من سائر وجوههِ رأيناهُ يدلُّ على بقاء راحة لشعب الله. وسواء أن فسرناهُ على التلاميذ باعتبار خدمتهم العامة لجميع الناس أثناء غياب السيد أو خدمتهم الخاصة في الدائرة الإسرائيلية في الظروف المذكورة هنا فلهم الغبطة فأن الله نفسهُ سيكون معهم، ويرافقهم في الطريق، ونحن كذلك في خدمتنا، وشهادتنا كيفما كانت ظروف أحوالنا. فأنهم حين يقفون أمام الحكام لا يجب أن يفتكروا بماذا يقولون، ولا يلزمهم أن يعدُّوا خطبًا لأن الروح القدس يكون معهم، وسيعطي لهم ماذا يتكلمون بهِ حينئذٍ.
فهذه هي الصورة التي رسمها السيد عن خدمة تلاميذهِ في وسط اليهود حتى المُنتهى. ثم زاد على ذلك بأن قال: أن الإنجيل يكرز بهِ إلى أقاصي الأرض. ثم ذكر في العدد الرابع عشر تنبيهًا قاطعًا مجزومًا بهِ على أسلوب أقطع مما قال سابقًا يتعلق بالحوادث المُزمعة أن تُجرى في أورشليم إذ قال فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة حيث لا ينبغي؛ ليفهم القارئ. وحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. فيجب أن نراجع هنا نبوة دانيال المُتكلمة عن هذه الرجسة فنجدها في (دانيال 25:9-27) والضيق العظيم المُقترن بذلك(إصحاح 1:12) فكلمة رجسة إنما تفيد صنمًا، وقد دُعيت رجسة الخراب؛ لأنها السبب لخراب أورشليم، وهلاك أمة اليهود.
أن اليهود سيقبلون ضد المسيح. كقول الرب أنا قد أتيتُ باسم أبي، ولستم تقبلونني إن أتى آخر باسم نفسهِ فذلك تقبلونهُ. فسيعودون تحت سطوة ضد المسيح إلى عبادة الأصنام. فأن هذا الروح النجس الذي خرج منهم بعد سبي بابل سيدخل فيهم أيضًا مع سبعة أرواح أُخر أشر منهُ فتكون الحالة الأخيرة أشر من الأولى (مَتَّى 42:12-45). وحينئذ سيَقيمون صنمًا في المكان المقدَّس حيث لا ينبغي؛ فتحل دينونة الله على الشعب، وعلى المدينة، ويكون الخراب كاملاً، وحينئذٍ سيكون ضيق لم يكن مثلهُ فأن دانيال يقول، وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن مثلهُ منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت. وهذا الضيق يستمرُّ زمانًا وزمانين ونصف زمان أي ثلاث سنين يهودية ونصف سنة أو 1260 يومًا أو 42 شهرًا وفي ذلك الوقت يُنجى كل من يوجد مكتوبًا في السفر أي أولئك الذين كابدوا المصاعب، والآلام والمظالم من ضد المسيح، والأمم وفقًا لِما أنبأ بهِ السيد، ولم يحيدوا عن الإيمان.
ولكن في خلال خدمة التلاميذ العامة سيعطيهم الروح القدس حكمةً لا يفتقرون لمعرفة نصوصها قبل الوقت المعيَّن. فنرى بهذا الكلام جودة الرب على أسلوب جدير بالاعتبار؛ لأنهُ سبق فأفتكر حتى في حالة الهواء أثناء تلك الدينونة الهائلة، ذلك قضاء رايع حتى أنهُ لن يحدث شئ يُضارعهُ في تاريخ العالم. فيوصيهم أن يصلوا لكي لا يكون هربهم في شتاء. ولا يتكلم هنا عن السبت كما في إنجيل مَتَّى لأنَّ الأمور اليهودية غير واردة هنا كما في ذلك الإنجيل. وقد أهتمَّ الرب أيضًا بالحبالى، والمرضعات في تلك الأيام. فيا لعظمة رأفتهِ! فأنهُ لم ينمحِ شئ من ذاكراتهِ. فأنهُ بينَما كان يحذّر تلاميذهُ من القضاء الهائل أهتم بالمصاعب المُزمعة أن تعترضهم في السبيل الذي علَّمهم أن يسيروا فيهِ.
غير أن السيد قصَّرَ تلك الأيام، وإلاَّ لِما خَلَصَ كل ذي جسد، ولكنهُ إنما قصَّرها لأجل مُختاريهِ. ثم أنبأ عن قيام مُسحاء كذبة، وأنبياء كذبة يجترحون معجزات، وآيات، وإلى هذا الحد تتصل قوة الشيطان التي يسمح بها الله لإضلال الناس حتى المُختارين إذا أمكن. وقد ذكر ذلك لإعطاء رجاء النجاة من الآلام، والأوجاع. فقد حذَّر الرب تلاميذهُ على هذا الأسلوب. فحين تأتي هذه الضربات العديمة المثال على أورشليم حينئذٍ تأتي نهاية النظام، وتنقلب بقضاء الله كل السلطة المقررة، وتهدم الرتبة التي أسسها لحكومة العالم، ويعتريها الارتباك، والاختلال فتظهر وقتئذٍ علامات قضائهِ كما نرى في الفصل القادم.
24 «وَأَمَّا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ ذلِكَ الضِّيقِ، فَالشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، 25 وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. 26 وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، 27 فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ. 28 فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصًا وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقًا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. 29 هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. 30 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ. 31 اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ.32 «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ. 33 اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ. 34 كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ السُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى الْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. 35 اِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا. 36 لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَامًا! 37 وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اسْهَرُوا». (عدد 24-37).
هذه العلامات في الأجرام السماوية ترافق الاضطرابات والانقلابات الحادثة حينئذٍ على الأرض كما قد رأينا بتفصيل إصحاح 24 من إنجيل مَتَّى. فلا حاجة هنا إلى إطالة الشرح على هذا الموضوع. فلابد ان الرب يظهر بقوة ومجد ليسود على الأرض التي لم يخلقها فقط بل حصل عليها بحق التملك أيضًا بواسطة موتهِ كابن الإنسان. فالقضية المُشار إليها هنا خاصة هي انهُ يرسل ملائكتهُ ليجمعوا مُختاريهِ من كل أطراف الأرض فالمسألة تتعلق هنا بأرض إسرائيل والمختارون هم من أسباط إسرائيل المتفرقين. على ان البركة المختصة بالأمم وبالعالم بأسرهِ لابد من حلولها في ذلك الوقت، وإنما يذكر الحوادث المتعلقة بإسرائيل والعالم ولا يُشير إلى اختطافنا. فان لنا دعوة ومنزلة أخص من أولئك لأننا سنظهر مع الرب في المجد ونكون معهُ ومثلهُ انظر (كولوسي 4:3؛ يوحنا الأولى 4:3) فالسيد يكون حينئذ قد جمعنا لملاقاتهِ في الهواء ويكون قد مجدنا وجعلنا مثلهُ وفقًا لنعمتهِ الغير المحدودة التي أنالتنا ذلك المجد حسب مشورة الله العادلة الأبدية وسنكون مثل الابن ومعهُ إلى الأبد فهو البكر بين أخوة كثيرين. لكنهُ يتكلم هنا عن المختارين في وسط إسرائيل المتشتتين بين الأمم.
فكل كلام المسيح هنا إنما هو متجه للشعب الأرضي. فهذا الجيل الوارد ذكرهُ في عدد 31 ليس إلا الجيل الملتوي الغير المؤمن من أمة اليهود الباقية حتى الآن جنسًا منفصلاً عن سائر الأمم وهي قاطنة بين شعوب العالم ولكنها باقية مفروزة ومحفوظة لإتمام مشورات الله. ثم أن نجد معنى كلمة جيل وقوتها واردة في (تثنية 2:32) حيث قِيلَ جيل معوج وملتوِ فقد قيل في العدد العشرين بشأن الدينونة الواقعة تحتها الأمة بعد نُطق الرب بهذه الكلمات اني احجب وجهي عنهم وانظر ماذا تكون أخرتهم لأنهم جيل متقلب أولاد أمانة فيهم.
فالثلاثة أزمنة ونصف أو الثلاث سنين ونصف إنما هي كناية عن الزمان الذي قصرهُ الله من رحمتهِ وجودهِ وهي نصف أسبوع دانيال الذي لم يزل غير مكمَّل بعد. وبعد ذلك ستُقام رجسة الخراب في المكان الذي لا ينبغي ذلك يستغرق ثلاث سنين ونصف ويعقب ذلك بضعة أيام لتطهير الهيكل فعلى هذه الكيفية ستحصل بقية اليهود على العزاء لمعرفتها في وسط الضيقات العظيمة ان تلك الأيام لا تدوم إلا مدة قصيرة ولكنها تجهل كل الجهل زمان تلك الساعة العظيمة لأنها لم تعلن لنا فالله وحدهُ يَعلم متى يكون؟ وقد بعث السيد بتلاميذهِ للخدمة بين اليهود. فحين يرون تلك الحوادث آخذة في أن تتم حينئذٍ يَعلَمون ان الزمان قد اقترب نرى مَثل شجرة التين مدرجة هنا كما في (مَتَّى 32:24) وهو من الأمثال المتعلقة بالأمة الإسرائيلية.
قال الرب: السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول. ولا يُخفى ان خراب أورشليم بواسطة تيطس الإمبراطور الروماني يُشير بعض الإشارة إلى ما قِيل غير ان نبوة الرب لم تُكمَل بعد بدليل ان المسيح لم يأتِ بعد تلك الحادثة ولم تتم الأمور التي تكلم عنها دانيال. فإذا حسبنا بعد خراب أورشليم 1260 يومًا أو 1260 سنةً لم يحدث شيء في ذلك الزمان يجوز لنا ان نحسبهُ تكميل هذه النبوة. ثم لا يمكن ان تكون ضيقتان لم تكن مثلهما. فنرى في إنجيل لوقا أولاً خراب أورشليم وحال اليهود الحاضرة على انهُ لا يتكلم عن رجسة الخراب لكنهُ يميز حصار أورشليم تحت قيادة تيطس عن إتيان الرب بعد ذلك بزمان مديد تمييزًا صريحًا. أما إنجيل مرقس فيتكلم أولاً عن خدمة التلاميذ إلى المنتهى ثم عن الضيقة الأخيرة مبتدئًا بحادثة رجسة الخراب.
لا يُخفى ان اليهود لم ينجوا في زمان الضيقة التي وقعت عليهم في أيام تيطس ولكنهم يفوزون بالنجاة في وقت الضيق العظيم المذكور هنا فإن الله يتداخل بواسطة رئيس الملائكة ميخائيل. فذلك سيحدث في إتيان المسيح الثاني. فالآيات الوحيدة المشيرة إلى الضيقة العظيمة التي لا مثيل لها توجد في (إرميا 7:3؛ دانيال 1:12؛ ومَتَّى 24؛ ومرقس 13) فكلها تُشير إلى الأيام الأخيرة المختومة باستعلان المسيح.
فأخيرًا حرضهم الرب على السهر والصلاة لأنهم لا يعلمون الساعة التي تتم بها تلك الأمور. وقد شبه نفسهُ بإنسان مسافر ترك بيتهُ وأعطى عبيدهُ السلطان ولكل إنسان عملهُ وأوصى البواب ان يسهر. فهذه هي صورة الخالة التي ترك عليها السيد تلاميذهُ في وسط اليهود الذين هم البيت الذي تركهُ السيد ووكلَّ تلاميذهُ على خدمة خصوصية فيهِ أثناء غيابهِ. لا شك أنهم خدموا أيضًا بين المسيحيين باعتبار كونهم بيت الله وكان يجب عليهم في كل نوع من خدمتهم ان يكونوا أُمناء ولكن ما يقولهُ لهم يقولهُ للجميع اسهروا، وهذا هو تنبيه وتحذير لنا فقد دُعينا لانتظار الرب ولا نعلم متى يعود لئلا يجدنا نائمين. فلنطلب منهُ تعالى ان يسبغ نعمتهِ في قلوبنا كي ننتظر مجيئهُ بأشواق حارة لملاقاتهِ ونسلك في سبيل يحملنا على الفرح دائمًا عند ذكر قدومهِ ولا نمل من الانتظار.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 4:04 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع



[center]الأصحاح الرابع عشر 

1 وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ، 2 وَلكِنَّهُمْ قَالُوا:«لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ».3 وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4 وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا:«لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5 لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6 أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ:«اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!. 7 لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8 عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا». (عدد 1-9).
ثم لنرجع إلى تاريخ حياة الرب وإلى الأيام الأخيرة من تلك الحياة المُباركة. فكان الفصح بعد يومين وطلب رؤساء اليهود أن يقتلوهُ ولكنهم كانوا يخشون أن يُثيروا شغبًا بين الشعب لأنهم رأوا أن تعليمهُ ومُعجزاتهِ قد أنشأت تأثيرًا عظيمًا في قلوبهم فقالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. تلك هي أفكارهم ولكنها لم تكن أفكار الله فإن يسوع كان لا بدَّ أن يموت كخروف الفصح الحقيقي المذبوح لأجلنا. وفضلاً عن ذلك كان ينبغي أن يموت في يوم الفصح نفسهِ ليفوق ذبيحة الفصح المُمثلة النجاة من مصر المرموز بها إلى نجاة أثمن بما لا يُقدَّر من المُشار إليها أي النجاة من الإثم لدى الله ومن سلطة الخطية.
فدنا زمان موت المُخلِّص وظهرت عواطف المحبة من الجهة الواحدة وشر الإثم من الجهة الأخرى بكل صورها وألوانها. فانَّا نرى مريم التي أَلَّفت الجلوس عند قدمي يسوع لتسمع كلامهُ وتفهم معناهُ وقلبها ينهل من تلك التعاليم الصافية. وكان يسوع ينبوع كل بركة الموضوع الذي وجهَّت إليهِ قلبها واستولى على عواطفها كل الاستيلاء. فإن نعمة يسوع ومحبتهُ أنشأتا فيها المحبة لهُ وأنشأت كلمتهُ في قلبها فهمًا وإدراكًا روحيًّا.وحملتها تلك المحبة على الشعور ببُغض اليهود المُتزايد لمُخلّصها. على أن التلاميذ عرفوا أن اليهود يطلبون أن يقتلوهُ أما مريم فشعرت بذلك. ليس أنها كانت نبيه غير أن قلبها شعر بذلك ودلها على ما يصبو إليهِ البُغض الإنساني فعملت كل ما عندها للشهادة على عواطفها المُباينة لتلك. فجعل السيد عمل المحبة المُشار إليهِ يتكلم حيثما يُكرز بالإنجيل في كل العالم.
فما أحلى الد*** إلى ذلك البيت الذي قطنت فيهِ تلك العائلة أما هذه الحادثة فجرت في بيت سمعان الأبرص فكانت هذه العائلة المحبوبة من المُخلِّص ملجًأ لقلبهِ حين كان يُرفض من الشعب. فإنه لم يستطع بعد الاعتراف بتلك المدينة التي أحبها مذ زمن مديد وكان مُعتادًا أن يسكن مع هذه العائلة المحبوبة. وكانت مرثا أكبر الأختين مُشتغلةً بالخدمة. فلقد كانت أمينة ومحبوبة من السيد ولكنها لم تكن ذات عواطف روحية كثيرًا ولم تفهم الأفكار التي أفعمت قلبهُ إلاَّ بعض الفهم. أما مريم فجلست عند قدميهِ تسمع تعليمهُ وكان الرب أقام من الأموات أخاها لعازر ومن ثمَّ تعلق قلبها بالمُخلِّص وأصبحت تُمثل تلك البقية القليلة التي اتَّحدت بيسوع نفسهِ وتابعت السير في الطرق الإلهية حتى النهاية ولم تقف عند آمال اليهود وأفكارهم على أن الإدراك الروحي المُعطى من الروح القدس وإن كان لم يزل ناقصًا فقد تبعت الرب عن قُرب ومن ثمَّ كانت مُتأهبةً لقبول الإعلان المُزمع أن يتمَّ.
فقد قبل أن مريم هذه لم تكن عند قبر يسوع تطلب المُخلِّص الحي بين الأموات. غير أن القلوب المُتحدة مع يسوع بالمحبة والراغبة في الالتصاق بهِ تقبل منهُ إعلان محبتهِ ومجدهِ في الزمان المُعيَّن لذلك فهكذا هي الحالة دائمًا مع هؤلاء القوم المُخلص الوداد ليسوع. ومما هو جدير بالتأمل أيضًا أن يسوع وإن كان الله حقيقةً كان أيضًا إنسانًا حقيقيًا كاملاً وقدُّوسًا في كل شيء وفي كل الأفكار والعواطف بل كان ينبوع كل الأفكار الصالحة. فلم يكن عديم الشعور بهذه الأميال الودية. فقد أحبَّ ذلك التلميذ حُبًّا خاصًّا أُعني يوحنا وأحبَّ أيضًا مرثا ومريم ولعازر وكان يُرفض من العالم الكنود والشعب المُتمرد ذلك لا ريب من أثمار نعمتهِ غير أن محبة قلبهِ لم تنقص بهذا السبب بل كان مثل هؤلاء أعزاء عليهِ وموضوع ودادهِ واهتمامهِ.
لكن وا أسفاه! إن ما هو رائحة حياة لحياة هو أيضًا رائحة موت لموت. فإن الذي أنفقتهُ مريم بالمحبة للسيد حرَّك روح البُخل والطمع في يهوذا وحسب ذلك خسارة. وقد سقط غيرهُ بهذا الداء العضال نفسهِ وأصبحوا تحت سطوة هذه الأفكار الشريرة. أما السيد فبرَّر المرأة وقال أنها فعلت كل ما عندها وما ذلك القول إلاَّ من نعمتهِ الفائقة وصرح بوجوب الاعتراف بما فعلتهُ في كل الأجيال تذكارًا لها. فإنها أبدت عواطف قلبها المُكرس بالنعمة في زمان كان بهِ المُخلِّص عازمًا على تسليم نفسهِ بالمحبة لفداء الأثمة فأصبح اسمها غير منفك عن عمل المسيح في تأدية الشهادة القاطعة لمحبتهِ الأبدية. فالذي فعلتهُ وإن كان قليلاً إنما السيد لا ينسى القليل المُقدَّم لهُ بالقلب الأمين المخلِص.
10 ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ. 11 وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ. (عدد 10-11).
أما الآن فقد أمست كل الأمور تسير نحو النهاية فأسرع يهوذا مسوقًا ربما بقوة الرشوة وبالحري بقوة إبليس إلى تسليم الرب. فقد تمَّ بذلك الخير والشر معًا وقد كملا على الصليب. وأما رؤساء اليهود فلم يكن فيهم شيءٌ من الضمير الصالح يمنعهم عن إجراء أعمالهم الشريرة ومُقاومتهم لرب المجد ولم يدَّهم خوف الله عن ذلك فأنفقوا مع يهوذا على إعطائهِ دراهم لتسليم يسوع. فكان يطلب فرصة لتسليمهِ إلى أيدي الكهنة بسكونٍ وهدوءٍ. فيا للعمل القبيح الفظيع!
12 وَفِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الْفَطِيرِ. حِينَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْفِصْحَ، قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» 13 فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ. 14 وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ 15 فَهُوَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً. هُنَاكَ أَعِدَّا لَنَا». 16 فَخَرَجَ تِلْمِيذَاهُ وَأَتَيَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. (عدد 12-16).
ولكن كان لا بدَّ للمُخلِّص من أن يوضح لتابعيهِ الطريقة التي أسلم بها نفسهُ لأجلهم فسنَّ ذلك التذكار الثمين لموتهِ ليُحملنا على ذكر ذلك على الدوام لا لنؤمن فقط بكفاءة ذبيحتهِ المُكملة مرة وإلى الأبد على الصليب بل لتتحد قلوبنا بالمُخلِّص الذي أحبنا وأسلَّم نفسهُ لأجلنا ونَذكُرهُ ونُخبر بموتهِ الكريم إلى أن يجيءَ. فانَّا نحن المسيحيين قائمون بين الصليب وإتيان المسيح ومؤسسون كل التأسيس على عمل الصليب الكامل ومُنتظرون تلك الساعة التي يعود بها إلينا بالأشواق الحارَّة.
فالرب وإن كان قد وصل إلى زمان إتضاعهِ الكلي ما فنيّ مُحافظًا كل المُحافظة على مجدهِ الذاتي وعلى حقوقهِ وسيادتهِ على كل الأشياء. فأمر اثنين من تلاميذهِ أن يدخلا المدينة حيث يريان إنسانًا حاملاً جرَّة ماءٍ فيجدا قلبًا مُستعدًّا بالنعمة لِقُبولهِ فيقولان لهُ: يقول المُعَلِّم: أين المكان الذي آكُل فيهِ الفصح مع تلاميذي؟ فإنهُ لهُ المجد يَعلَّم كل الأحوال وكل القلوب. فوجد التلميذان الرجل كما أخبرهم وأعدا الفصح.
17 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 18 وَفِيمَا هُمْ مُتَّكِئُونَ يَأْكُلُونَ، قَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي. اَلآكِلُ مَعِي!» 19 فَابْتَدَأُوا يَحْزَنُونَ، وَيَقُولُونَ لَهُ وَاحِدًا فَوَاحِدًا:«هَلْ أَنَا؟» وَآخَرُ:«هَلْ أَنَا؟» 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يَغْمِسُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ. 21 إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». (عدد 17-21).
فلما كان المساءُ أتى يسوع مع الاثنى عشر وكان ذلك العيد تذكارًا لنجاة بني إسرائيل من عبودية المصريين غير أن يسوع كان مُزمعًا أن يُتمم فداءً أفضل فسنَّ تذكارًا أسمى من ذلك بما لا يُقدَّر ولكن كان لا بدَّ لهُ أن يموت للقيام بذلك. فكانوا معًا على المائدة فتطلع السيد وهو مُفعم بالمحبة بالتلاميذ وشَعرَّ كل الشعور بأن واحدًا يُسلمهُ ممن كانوا مُتمتعين بعِشرتهِ وحضرتهِ المُقدَّسة. فقد عَلَمَ من هو الخائن، ولكنهُ عَبَّرَ عن الألم الحال في قلبهِ فقال: إن واحدًا منكم يُسلَّمني فإنهُ أراد أن يمتحن قلوبهم أيضًا وأن يُعلِنْ ما هو كامن داخلهُ. فصدقوا كلمات الرب فقال: كلٌّ منهم واثقًا كل الوثوق بالرب لا بنفسهِ هل أنا هو يا سيد؟ تلك شهادة جميلة على قلوب مُمتحنة تهتم بفظاعة ذلك الإثم وإمكانية حُدوثهِ وتثق بيسوع أكثر مما بنفسها.
ولكن لا بدَّ للسيد من احتمال تلك الأحزان كلها فلم يكتمها بكبرياء عن خاصتهِ. ولكن رغب كإنسان في إبدائها للقلوب الإنسانية لأن المحبة تستند على المحبة. على أنهُ توجد أحزان يتعذر إبلاغها إلى قلوب البشر غير أن مشيئة الله اقتضت فليكن اسمهُ مُباركًا إلى الأبد أن نعرف آلام ابنهِ فهي وإن كانت تفوق إدراكنا لكنها عُرِضَتْ على قلوبنا للتأمل والتَبصُّر. وبُناءً على ذلك نسمع المُخلِّص صارخًا، إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فإذا لم نستطع البلوغ إلى أعماق آلامهِ نستطيع أن نفهم شيئًا منها ونعرف أنها كانت غير محدودة. ثم أعلن لهم الرب على المائدة قُرب انصرافهِ من العالم وفقًا للنبوات وأنبأهم عن دينونة يهوذا الهائلة. ولا يُخفى أن إتمام مشورات الله لا ينزع الإثم عن القائمين بإتمامها، وإلاَّ كيف يستطيع الله أن يدين العالم؟ لأن كل الأشياء تعمل معًا لإتمام مشوراتهِ. لا جرم أن إرادة الإنسان الشريرة لا تنفكُّ من عمل الشر على الدوام. أما غاية الرب البادية في هذا الإنجيل بإخبارهم عن الإنسان المُرتكب هذه الخيانة فليست الإشارة إلى شخصهِ بل ليُعرفهم أن الذي يفعل ذلك إنما هو واحد من الاثنى عشر.
22 وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ:«خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي». 23 ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ. 24 وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. 25 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ». 26 ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. (عدد 22-26).
ثم سنَّ يسوع الآن العشاء الرباني وهو علامة ثمينة وتذكار كريم عن محبتهِ وموتهِ. فكان الفصح إلى الآن تذكارًا عن نجاة الشعب من عبودية مصر وكان يُمثل ذلك دم الخروف المرشوش على أساكفة أبواب الإسرائيليين. أما الآن فقد رُشَّ دم الحمل أسمى جدًا على قدس الأقداس السماوية أمام عيني الله وذلك حين أتمَّ حمل الله كل شيء لمجد الله وخلاص المؤمنين فقد كمل العمل وقد تجرع يسوع بذبيحة الصليب كأس اللعنة فلا يتجرعها بعدُ. وقد مَجَّد الله كل التمجيد بفداء الخاطئ فيستحيل أن يُزاد على ذلك كأن العمل ناقص ويفتقر للإكمال. فقد حَمَلَ خطايا الكثيرين فلا يحملها بعدُ. ولا يستطيع أن يُقدم نفسهُ أيضًا وقد جلس إلى الأبد عن يمين الله (عبرانيين 24:9-26). فإنهُ لو فعل ذلك لالتزم أن يتألم مرارًا. فلو لم تكن ذبيحتهُ الواحدة على الصليب قد نزعت خطية المؤمنين إلى الأبد لاقتضى أن يُكرّر ذلك العمل لأنهُ بدون سفك دم لا يحصل مغفرة.
لا جرم أن مغفرة خطايا المؤمنين بواسطة عمل المسيح إنما هي تامة وكاملة وأبدية. فإذا أخطأنا بعد قُبول المغفرة صلى المسيح لأجلنا فهو شفيعنا بكفارتهِ ويظهر أمام وجه الله لأجلنا كبرّنا (يوحنا الأولى 1:2،2). أما نتيجة شفاعتهِ لأجلنا فهي أن الروح القدس يعمل في قلوبنا فنتضع ونعترف لله بخطايانا فتعود شركتنا مع الآب والابن. غير أن الخطية لا تُحسب علينا كإثمٍ لأن المسيح قد حملها بنفسهِ فحُسِبت عليهِ. وذلك كما كانت الحالة في فصح بني إسرائيل في مص فإن الله قال: فأرى الدم وأعبر عنكم. فدم المسيح لا يزال لدى عيني الله على الدوام ولا يبرح من ذاكرتهِ. وعلى ذلك يمسح يسوع أقدامنا بماء كلمتهِ لأجل السلوك اللائق بنا كوننا خُلِصنَا مجانًا بالإيمان بدمهِ الذي سُفك لأجلنا مرة واحدة على الصليب. فإذا كان الله لا ينسى دم المسيح المسفوك مرةً لأجلنا لا يُريدنا أن ننساهُ. ويسوع بنعمتهِ الفائقة الحد يرغب في أن نُفكر بهِ وأن نذكرهُ. ذلك من البينات الثمينة القاطعة على محبتهِ إيانا، بأنهُ يُسرّ بذكرنا إياهُ وأنهُ ترك لنا تذكارًا مؤثرًا عن نفسهِ وعن محبتهِ. فيا لبهجة هذا الفكر! وهو أن يسوع يصبو لأن نُفكر بهِ وبمحبتهِ. فالذبيحة لا يمكن تكرارها غير أن قيمتها هي هي دائمًا لدى الله ويسوع جالس عن يمين الله مُنتظرًا إلى أن توضع أعداؤُهُ تحت موطئ قدميهِ ونحن ننتظرهُ إلى أن يأتي ويأخذنا إلى بيت أبيهِ. وفي العشاء الرباني نذكر موتهُ إلى أن يجيء.
ومن الأمور الخطيرة الواجب مُلاحظتها أن لا ذبيحة في الوقت الحاضر وأن المسيح ليس بحاضر شخصيًا في الخبز والخمر. أما كنيسة رومية فتقول: أن العشاء الرباني أو بالحري القُدَّاس هو الذبيحة نفسها التي تقدمت على الصليب. ولكن حين قال يسوع: هذا هو جسدي … اصنعوا هذا لذكري لم يكن عُلّق بعدُ على الصليب، ودمهُ لم يكن قد سُفك بعدُ، ولما **ر الخبز لم يمسك نفسهُ بيدهِ ، فكيف يمسك نفسهُ بيدهِ مصلوبًا وهو لم يكن قد سُمر بعد على الصليب؟ فالمسيح ليس على الصليب الآن بل هو جالس عن يمين الله، ولا يوجد سفك دم الآن. ومن دواعي السرور والشكر أن يسوع رَسمَ لنا هذا العشاء ذِكرًا لمحبتهِ وموتهِ. فإستحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمهِ الحقيقيين من الأمور الغير الممكنة المضادة للعقل والكتاب لأن ذبيحة المسيح واحدة ولا تتجدد ولا تتكرر.
فنحن نُبين في العشاء موت يسوع ودمهُ المسفوك لأجلنا فالمُخلِّص قد تمجد فلا يمكن أن يكون ذبيحة بعد ولا يستطيع النزول من السماء ليموت أيضًا. فإذا إستحال الخبز إلى جسدهِ ووُجد فيهِ نفس لزم أن تكون نفس أخرى وهذا مُحال. فيقولون: أن اللاهوت موجود في كل مكان وإن جوهر الجسد موجود في العنصرين ولكن يُجاب أن النفس مُفردة وهي تحي وتشعر وتحب وهي واحدة لا تنقسم فبموجب تعاليم رومية أن نفس يسوع تترك السماء وتأتي الأرض لتتألم وتموت فلا يمكن أن تكون تلك النفس بعينها وإذا كانت هي نفسًا أخرى كان ذلك مُحالاً. فقد قال يسوع في إنجيل لوقا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، أي أنها تدل على الدم لأن الكأس نفسها ليست العهد الجديد. وعلى هذا المنوال يُمثل الخبز بنوع مؤثر جسد يسوع المصلوب ويُمثل الخمر دمهُ المسفوك لأجلنا. وأخيرًا أعطى السيد لتلاميذهِ من ثمر الكرمة ليشربوا فقد سماهُ بذلك بعد أن قال: في العدد الرابع والعشرين هذا هو دمي للعهد الجديد فيتضح من ذلك جليًّا أنهُ لما قال: لا أشربهُ معكم أيضًا أعني عن الخمر في حالهِ الطبيعية. ثم بعد العشاء رنموا ترنيمة وخرجوا إلى جبل الزيتون ويسوع ساكنًا بالروح. فحذَّر تلاميذهُ أنهم كلهم يعثرون بهِ تلك الليلة، وأنهم يتركونهُ حسب نبوة زكريا القائلة: أني أضرب الراعي فتتبدَّد الغنم، ولكنهُ أنباهم أيضًا عن قيامتهِ، وأنهُ بعد نهوضهِ يسبقهم إلى الجليل فنجد فرقًا بين ظهور يسوع في الجليل، وظهورهِ في بيت عنيا. فهذا المكان الأخير مذكور في إنجيل لوقا. فقد صعد إلى السماء من بيت عنيا أما وجودهُ في الجليل فكأنهُ يمثل دوام وجودهِ على الأرض، وإن كان قد نهض من الأموات. وأعطى لتلاميذهِ خدمة الكرازة بالإنجيل، ومعمودية كل الأمم. فهذه الخدمة لم يقم بها الرسل بل تركوها بعدئذٍ لبولس أي الكرازة بالإنجيل للأمم لأنهم عاينوا وعرفوا انتخاب الرب إياهُ لهذه الخدمة وإرسالهِ لهُ للقيام بهذا العمل.
ونرى في إنجيل مرقس أن هذه الخدمة تختلف أيضًا عما قيل. فهي مقترنة مع قوة يسوع السماوية. لأن عملهُ صُنع بالأكثر في الجليل، وهنالك عرف البقية اليهودية، وجمعها، وقبلها ثم بعث بتلاميذهِ ليأتي بالأمم إلى الخلاص المُنتظر من الله. فالأنباء بالبركات السماوية، والخلاص المُعلن بالروح القدس المُرسل من السماء حين صعود يسوع إلى هنالك هو أمر آخر يختلف عن ذاك. ولكن سواء كانت البركات أرضية أو سماوية لا يمكن الحصول عليها بالإنسان الأول بل الإنسان الثاني إنما هو الأساس الوحيد الممكن لكل خير.
27 وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ الْخِرَافُ. 28 وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 29 فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» 30 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 31 فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ:«وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!». وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ. (عدد 27-31).
أما الآن فلزم أن ينفرد يسوع في عملهِ وآلامهِ، وكان لابدَّ لهُ أن يبين حالة الإنسان الحقيقية حين يتركهُ الله، ويكف عن حفظهِ وصيانتهِ. فأنبأ تلاميذهُ عن ذلك، وحذرهم، أما بطرس الواثق بأمانتهِ، وقد كان مخلصًا بذلك، والمُتكل على قوتهِ فلم يصدق كلام سيدهِ. وأما يسوع فيجد نفسهُ متروكًا ومنكرًا، وكان لابدَّ للإنسان، وإن أخلص المحبة أن يعترف بضعفهِ، وعجزهِ الكامل. ذلك مثال يحملنا على الاتضاع، والتذلُّل لكنهُ يفيدنا كل الفائدة لأنهُ يوضح بأجلى بيان حالتنا الحقيقية، ونعمة يسوع، وصبرهِ، وهو من الأمور المهمة الواجب علينا ذكرها فنتعلَّم جليًّا بهذه الحادثة أن الإخلاص ليس بكافٍ لصيانتنا في السبيل القويم فهو من الصفات الإنسانية، ولكننَّا نفتقر أيضًا لقوة المسيح لحفظنا من مكر إبليس، وخوف العالم فإذا لم يكن يسوع معنا استطاعت فتاة صغيرة أن تُوقع رسولاً في شرك الجحود. لا جرم أن الخوف من البشر إنما هو شرك هائل للنفس فذلك الخوف أثر كل التأثير في قلب بطرس. حتى بعد حلول الروح القدس عليهِ فأنهُ لما أتى بعض اليهود المؤمنين من أورشليم إلى إنطاكية حاد عن خطة الاستقامة، وأرتكب خطية الرياء.
ثم تأملوا كيف أن السيد هيَّأ الرسولين العظيمين للقيام بعملهِ. فأن بولس حاول أن يتلف اسم يسوع من الأرض، وبطرس أنكرهُ جهارًا بعد معرفتهِ إياهُ، وبعد أن صنع معجزات باسمهِ. ومن ثمَّ كان يستحيل عليهما أن يعلَّما تعليمًا آخر سوى تعليم النعمة لأن الثقة الكاذبة بأنفسهما كانت قد هُدمت، وتلاشت. فقد استطاعا أن يشجعا الآخرين من اختبارهما الذاتي لنعمة يسوع، وطول أناتهِ عليهما، ومغفرتهِ لهما. وقد تعلَّما أيضًا بالاختبار شر القلب الإنساني، وضعفهِ حتى أن المسيحي لا يَسْلَمْ من السقوط بدون النعمة الإلهية. وعلى ذلك قال يسوع لبطرس: وأنت مَتَى رجعت ثبّت أخوتك، ولكنهُ سقط بعد ذلك حتى ألتزم بولس أن يقاومهُ مواجهةً. وبولس نفسهُ ألتزم أن يحمل شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمهُ لئلا يرتفع. فالجسد لا يكفُّ عن المقاومة للروح. فكم يجب على المسيحيين الضعفاء أن يسهروا، وأن يعرفوا ضعفهم، وأن يطلبوا تلك القوة التي تَكْمُل في الضعف، ونعمة يسوع الثمينة التي هي كافية لنا. على أن سقوطنا ليس من الأمور المحتومة لأن الله أمين، ولا يدعنا نُجرَّب فوق ما نستطيع أن نحتمل، ولكن من واجباتنا أن نصلي لئلا ندخل في تجربة.
32 وَجَاءُوا إِلَى ضَيْعَةٍ اسْمُهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أُصَلِّيَ».33 ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ. 34 فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ! اُمْكُثُوا هُنَا وَاسْهَرُوا». 35 ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36 وَقَالَ:«يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». 37 ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَامًا، فَقَالَ لِبُطْرُسَ:«يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ 38 اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». 39 وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. 40 ثُمَّ رَجَعَ وَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً، فَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَاذَا يُجِيبُونَهُ. 41 ثُمَّ جَاءَ ثَالِثَةً وَقَالَ لَهُمْ:«نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! يَكْفِي! قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. 42 قُومُوا لِنَذْهَبَ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ!». (عدد 32-42).
فنرى في المشهد لدينا يسوع يصلي بشدَّة اللجاجة، وبطرس نائمًا، ولما أَسْلَمَ السيد نفسه كَحَمَلْ صامت أمام جازيهِ سلَّ بطرس السيف ليضرب. ولما اعترف يسوع بالحق أمام أعدائهِ بسكون وثبات؛ أنكره بطرس. فهذه هي حالة الجسد الحقيقية، وثمر الثقة الكذبة بالنفس على أن السيد حذَّر بطرس تحذيرًا جليًا وأنبأه أولاً وثانيًا أنهُ قبل أن يصيح الديك مرتين ينكرهُ ثلاث مرات غير أن بطرس أتكل على نفسهِ فقال: وإن اضطررت أن أموت معك لا أتركك. أما إبليس فلا ينفكُّ عن العمل بمكرهِ فشاء أن يغربلهُ كالحنطة غير أن الروح القدس يحوّل التفاتنا إلى الثقة الكاذبة بالقلب الإنساني حسب حالتهِ الجسدية.
ولكن لنحوّل أبصارنا الآن نحو سيدنا المبارك فنعاين بهِ مثالاً للأمانة الكاملة، كما أننا نرى في سلوك بطرس مثالاً للثقة الكاذبة بالذات، وضعف الجسد. فنشاهد في يسوع إنسانًا حقيقيًّا على أن القوة الإلهية كان لابدَّ من وجودها لتقوية الطبيعة الإنسانية على احتمال الآلام المُبرّحة، وعدم السقوط تحت أثقالها الشديدة.
فشاء السيد أن يرافقهُ ثلاثة تلاميذ أولئك الذين كانوا يصاحبونهُ في بعض الحوادث الخاصة، وصاروا بعدئذٍ من أعمدة الكنيسة، وأن يسهروا بينما هو يُصلي. فثقلت عليهِ مرارة الكأس المُزمع أن يتجرعها، وانتصبت لدية آلام الموت وقضاء الله على الخطية، وقد جعل الشيطان هذه الآلام تثقل عليهِ ليمنعهُ إن أمكن عن إتمام عمل الخلاص. فشعر يسوع بذلك كلهِ، وكان أمينًا في كل شئٍ. فابتدأ أن يدهش ويكتئب. أما اسطفانوس فلم يشعر حين استشهادهِ بألم لأن موتهِ لم يكن إلاَّ نصرة مقترنة بالسلام والمحبة، فقد ذهب لملاقاة سيدهِ الذي كان ينتظرهُ على يمين الله في السماء، وكان يُصلي مثل مُعَلِّمْهِ لأجل أعدائهِ. فنزع المُخلص شوكة الموت، لشهيدهِ الأول، ولكل مؤمن، وأصبح ذلك مثالاً ينبئنا عن حقيقة عملهِ حين حَمَلَ خطايانا بجسدهِ على الخشبة. أما الآن في بستان جَثْسَيْمَانِي فلم يكن قد حمل بعدُ خطايا البشر غير أن الشعور بما كان عتيدًا أن يكابدهُ ثقل على قلبهِ فأحسَّت روحهُ بثقل الخطية واللعنة التي نستوجبها نحن من الله لأنهُ كان لم يزل في شركة مع أبيهِ. فلزم أن لا يخضع فقط لبرّ الله ويصير خطية لأجلنا مُحتملاً قصاصها بل ألتزم أن يتألم من أجل تقواهُ أيضًا (انظر عبرانيين 7:5، 8) فالشعور بما كان عتيدًا أن يحتملهُ من الآلام ثقل عليهِ قبلما كابد أوجاع الصلب. فقد قدَّم نفسهُ طوعًا باختيارهِ لمجد أبيهِ، وحبًا بخلاصنا، وأطاع حتى الموت. فالسبح كل السبح لاسمهِ إلى الأبد.
أما استفانوس ففرح؛ لأن المسيح كان قد تألم وفتح لهُ الطريق إلى السماء، باحتمالهُ عنهُ وعنا قضاء الخطية وقصاصها. ذلك شأنهُ أن يحملنا على أدراك قيمة موتهِ لدى الله، فنستطيع أن نراهُ كما رآهُ استفانوس حين امتلأ من الروح القدس، وتفرَّس بالسماء.
أن يسوع كان قد ترك تلاميذهُ عند مدخل البستان، وأخذ أولئك الثلاثة معهُ، وأوصاهم أن يسهروا بينما هو يُصلي. فصلى أن تعبر عنهُ الساعة إن أمكن. على أنهُ كان قد تجرع كؤُوس آلام من أيدي الخطاة، ولم يشكُ، ولم يضجر لأن رضى أبيهِ كان كافيًا لتعزيتهِ. غير أنهُ تجرع هذه الكأس المرة وصير لعنةً، وكون البار أصبح خطية، وكونهُ أمسى متروكًا من الله بعد أن كان في شركة أبيهِ وموضوع محبتهِ لأجل تقواهُ فكل هذه ثقلت عليهِ حتى أراد أن يحجم عن شرب تلك الكأس إن أمكن. ولكن كان لابدَّ لهُ من احتمال تلك الآلام لخلاصنا؛ لأن لا وسيلة أخرى لنوال تلك الغاية التي وافى لأجلها.
فذلك القصاص لم يكن إلاَّ واسطة لخضوع المخلص الكامل وطاعتهِ ودليلاً عليهما، ولكنه مع ذلك قال: ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت فقد شعر بتلك الآلام كلها، ولكنه وضعها لدى أبيهِ، وكابدها على سبيل الامتحان إطاعةً لأبيهِ. غير أن ذلك الامتحان انقضى الآن وأُعلنت إرادة الله، وكَمُلَتْ طاعة يسوع، وإن كان العمل نفسهُ لم يتم بعدُ. أما التلاميذ فلم يطيقوا حتى ولا ظلّ ذلك الامتحان، وكان الكل حينئذٍ أعدائهُ. وكان إبليس حاضرًا هنالك بملء قوتهِ وفوق الكل كان عليهِ أن يحتمل اللعنة المُنتصبة أمامهُ. فكل الحوادث وقتئذٍ إنما كانت امتحانًا لهُ غير أنهُ بخضوعهِ لإرادة أبيهِ أظهر محبتهُ لهُ.
فقد سُمح لنا بالعناية الإلهية أن نُشاهد عواطف قلب المُخلص، وأعمال محبتهِ، وأن نشترك بضعفنا بآلام قلبهِ، وأن كان منفردًا وحدهُ في احتمال تلك الامتحانات. فيا للنعمة العُظمى! فكان لابدَّ لهُ أن ينفرد بالعمل كما أنفرد هنا في التأهب لهُ، ولكننا نستطيع أن نصغي بقلوب خاشعة لهتافهِ حين كشف قلبهُ لأبيهِ بشأن آلامهِ. فقد دُعينا لأن نتفرَّس بهِ ونفهم ما عملهُ لأجلنا، وأن نتمتع بعواطف قلبهِ الإنساني، وكمال محبتهِ كإنسان لأجلنا. فإذا كان السلام الذي نملكهُ المُختص بهذه الحالة الجديدة، والمؤسس على عملهِ الكامل عظيمًا بهذا المقدار! كان امتيازنا بسماع هتافهِ الناشئ من حزنهِ ليس بأقلَّ عظمةً من ذلك.
ثم تأملوا بالكلمات اللطيفة التي وبخ بها يسوع تلاميذهُ. فقد بيَّن لبطرس بأرق طريقة الفرق بين الشجاعة الحارة في غياب العدو، وعدم الاقتدار على السهر ساعة واحدة مع مُعَلَّمْهِ المُتضايق. ثم عذر التلاميذ بهذه الكلمات العذبة أن الروح نشيط أما الجسد فضعيف، ولكن لعلْمِهِ بأخطار تلك الساعة وأهميتها حرَّض تلاميذهُ على السهر والصلاة لئلا يدخلوا في تجربة. فلا نرى أن آلام المُخلص منعتهُ من الاهتمام بالآخرين، فقد اعتنى باللص على الصليب كأنهُ لم يكن فيألم. ومع أنهُ لم يكن لهُ أحيانًا وقت للأكل كان لهُ وقت كافٍ لأن يعلن للجموع التي تبعتهُ الحق الإلهي. فقد جلس مُتعبًا على بئر يعقوب، ولكن قلبهُ لم يتعب من التكلم عن الماء الحي، ولا من النظر إلى ضمير تلك المرأة السامرية البائسة. فلم يتعب قط من عمل الخير. فهو هو أمس واليوم وإلى الأبد.
43 وَلِلْوَقْتِ فِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ أَقْبَلَ يَهُوذَا، وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ. 44 وَكَانَ مُسَلِّمُهُ قَدْ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً:«الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ، وَامْضُوا بِهِ بِحِرْصٍ». 45 فَجَاءَ لِلْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَائِلاً:«يَا سَيِّدِي، يَاسَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. 46 فَأَلْقَوْا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ. 47 فَاسْتَلَّ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ السَّيْفَ، وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ.48 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:«كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! 49 كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ». 50 فَتَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا. 51 وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، 52 فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا.53 فَمَضَوْا بِيَسُوعَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ. 54 وَكَانَ بُطْرُسُ قَدْ تَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَاخِلِ دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، وَكَانَ جَالِسًا بَيْنَ الْخُدَّامِ يَسْتَدْفِئُ عِنْدَ النَّارِ. 55 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةً عَلَى يَسُوعَ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. 56 لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. 57 ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ: 58 «نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». 59 وَلاَ بِهذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ تَتَّفِقُ. 60 فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ فِي الْوَسْطِ وَسَأَلَ يَسُوعَ قِائِلاً:«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هؤُلاَءِ عَلَيْكَ؟» 61 أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتًا وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ:«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» 62 فَقَالَ يَسُوعُ:«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». 63 فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ 64 قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ. 65 فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ:«تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ. (عدد 43-65).
غير أن الوقت كان قد أتى. فوجد تلاميذهُ هذه المرَّة الأخيرة نائمين كالمرات الأولى. فكان لابدَّ لهُ أن يختبر تلك الوحدة الأدبية التي لم ينفكَّ عنها بين الناس حتى في وسط تلاميذهِ. ولا يُخفى أنهُ توجد وحدة يختبرها الإنسان أدبيًا وإن وُجد فعلاً بين جماهير الناس. فقال السيد ناموا الآن قد اقترب الخائن قوموا لنذهب فقد اقترب الذي يُسلمني فكان لابد للمُخلص من أن يقبل الشهادة الأخيرة لضعف القلب الإنساني حين يُترك لنفسهِ ويُقسي من إبليس. فلمسهُ يهوذا بقبلة فهذه هي حالة القلب الإنساني الهائلة إذا ترك لذاتهِ. فقال يهوذا: خذوهُ وسوقوهُ بآمن أما يسوع فكابد ذلك كلهُ ونفسهُ في شركة كاملة مع الله أبيهِ وفي سلام تام بين الناس في هذه الأحوال العديمة المثال. فتكلم مع الجمهور الآتي لإلقاء القبض عليهِ قائلاً اني كنت بينكم يوميًا في الهيكل ولم تمسكوني ولكن لابد ان تكمل الكتب فقد أراد أن يشهد لسلطان الأسفار المقدسة وصحتها لأنها تعلن عن آلامهِ وموتهِ فهي كناية عن إعلان مشورات الله، ومقاصدهُ، وأفكارهُ. فقد اتخذ يسوع أيضًا تلك الأفكار والمقاصد دستورًا ومحركًا لكل ما فعل وقال. على انه كان دائمًا في شركة لا يعبر عنها مع أبيه فتلك الأسفار إنما تمثل أفكار الله على الأرض لأجل الإنسان الساكن عليها، وهي تعلن أيضًا قضاء الله وقدرهُ السماوي وتُبين ما هية الأمور السماوية. فما أعظم البركات الناشئة لنا من إحرازها!
فتركهُ التلاميذ كلهم وهربوا. أما بيلاطس فتبعهُ بعدئذٍ من بعيد ثم أتى بلاط رئيس الكهنة. ثم خضع المخلص بملء الرزانة والسكون. فإنهُ كان قد زان الأمور وقاسها في حضرة أبيهِ؛ فأوضح له لهُ كل الحوادث وبيَّنها كل البيان ولكن لا يستطيع أحد أن يتبعهُ إلى وادي الموت ولا يقف لدى قوة العدو فلا يقدر إنسان أن يفعل ذلك إلا المُخلص الأمين نفسهُ. فكان ذلك الوقت من الساعة التي سمح بها للشرير ان يستخدم قوتهِ ليستطيع السيد أن يسلم نفسهُ لأيدي القوم الأثمة. أما التلاميذ فهربوا. فأراد شاب أن يتبعهُ ولكن كل ما اقتحم أحد هذا السبيل التزم ان ينكص عنهُ بالعار والخجل فأرادوا ان يمسكوا ذلك الشاب لكنهُ فرَّ منهم عريانًا. غير أن بطرس تبعهُ إلى مكان ابعد ولكن لم يكن ذلك إلا لسقوطهِ سقوطًا أعظم فتعَلَّم بهذه الحادثة درسًا أنباهُ عن حالتهِ الحقيقية وحالتنا نحن. فالفكر بالآم المسيح لدى الله من الأمور المؤدية لخيرنا. فحين يَكشف قلبه لأبيهِ نرى آلامهُ الشديدة وسكونهُ الكامل لدى البشر وذلك من أثمار خضوعهِ التام. على أن البشر المشتركين بهذا العمل يحسبون عندهُ كل شيء، وإبليس لا يستطيع ان يفعل شيئًا لأن يسوع أخذ الكأس من يد أبيهِ فهذا تعليم لنا خطير جدًا.
ومن واجباتنا أن نذكر ان قضاء الله كان أمرًا محتومًا فرؤساء اليهود لم يطلبوا إلا الوسائط للقيام بالإثم والقتل تحت رداء العدل. فطلبوا عليهِ شهادةً ليُميتوهُ. غير أن تلك الشهادة كانت كاذبة ولم تتفق الشهود. على أن كثيرين كانوا مستعدين لتأدية الشهادة غير ان شهادتهم لم تنفع شيئًا بل كان لابد للسيد ان يُقضى عليهِ بشهادتهِ الخاصة. فالنظر إلى عدوان القلب الإنساني ومضادتهِ للمُخلص من الأمور المكدَّرة فأن السيد لم يفعل للبشر إلا الخير. فقد شفى المرضى وأشبع الجياع وانهض الأموات وأخرج الشياطين وأعلن سلطانهُ الإلهي بعمل الخير.
فلما تجسد ابن الإنسان ظهرت القوة الإلهية الكافية لإزالة كل نتائج الخطية على الأرض ومحوها حتى الموت. فقد عمل يسوع حسب سلطانهِ الإلهي وربط القوي في القفر ونهب بيتهُ. فحلت قوة على الأرض كافية لإزالة كل عواقب الخطية لأن قوة الله أعلنت بجودتهِ غير ان ذلك أهاج عليهِ عدوان القلب البشري. فلم تكن علة لموت يسوع إلا هذا العدوان فالذي نزع نتائج الخطية المُحزنة لم ينزع الخطية نسها من قلب الإنسان بل أعلن صفات الله إعلانًا كافيًا لأن يًثير عدوان القلب ويُبين حالتهُ الحقيقية.
فقد قِيل في (لوقا 13:4) ففارقهُ الشيطان إلى حين ولكنهُ سيعود ثانية كرئيس هذا العالم فليس لهُ شيء في يسوع، ولكن ليَعلم العالم انهُ أحب الآب وكما أوصاهُ كذلك يفعل (يوحنا 3:14-31) فكان الشيطان قال ليسوع: إذا استطعت الثبات في المحاماة عن دعوى الإنسان فلي عليك حق الموت. لا جُرم ان لعنة الله حلت على البشر فكان لابد ليسوع أن يجتاز وسط الموت الهائل واللعنة. كلا بل تجرعهُ وشعر بمرارتهِ حبًا بأبيهِ وبنا بالطاعة الكاملة. فقد دخل بالطاعة والنعمة إلى حيث كنا ليحتمل عنا الخطية والعصيان فذلك الذي لم يعرف خطية صار خطيةً لأجلنا وذلك الحَمَلْ الذي بدون عيب قدمّ نفسهُ لله عنا.
أننا في هذا الإصحاح نرى يسوع كحَملْ صامت أمام جازيهِ فلم يُجيِب على شكاوي أعدائهِ فقد عزموا ان يُميتوهُ وهو علمَ بذلك وقصد ان يُقدم حياتهُ فديةً عن كثيرين. فلم يُجِيب على الشكاوي المفعمة من الخبث والكذب ولكن لما سألهُ رئيس الكهنة إذا كان هو المسيح ابن المبارك أدى شهادة تامة لأجل الحق. فقد رُفض وصُلب لأجل شهادتهِ الخاصة للحق، ولكن وإن اعترف بالحق طبقًا لسؤال رئيس الكهنة لم يتجاوز مقامهُ بحسب كونهِ مسيا اليهود الموعود بهِ.
ثم زاد على ذلك شهادتهُ لمقامهِ كابن الإنسان ان يتألم فالآن نشاهد إتمام هذه النبوة فقد وردفي المزمور الثاني أن المسيح معروف بابن الله ولكنهُ مذ الآن كان مزمعًا ان يتخذ مقامًا جديدًا وهو ابن الإنسان كما ورد في المزمور الثامن فلم يرَ اليهود بعد المسيح بينهم بالنعمة بعد ان رفضوهُ كما قِيل في المزمور الثاني بل ابن الإنسان جالسًا عن يمين الله وآتيًا في سحاب السماء معلنًا سلطانهُ للدينونة. إنما ينتظر وهو جالس عن يمين الله حتى توضع أعدائهُ تحت قدميهِ (مزمور 11)
أما الآن فنراهُ في السماء بعد أن أكمل العمل الذي أعطاهُ إياهُ أبوهُ ليعمل. ونعاينهُ عن يمين الله وقد محا خطايانا منتظرًا إلى ان توضع أعدائهُ تحت قدميهِ.
فقد اعترف بالحق حين دعتهِ لذلك ضرورة السلطان الفائق فهو مثال للكمال المطلق بل هو الحق نفسهُ متجسدًا.
فلم يستطيع إبليس ان يفعل شيئًا في هذه الحالة إلا ان يجلو الحق ويوضحهُ بفم يسوع وان يكون آلة لإتمام عمل الفداء الذي شاء الله إجراءهُ. فالشكر كل الشكر لاسمهِ تعالى. أما البشر فذهبوا إلى ان يسوع يستوجب الموت لأنهُ نطق بالحق ذلك حق ينبئ عن محبة الله بإرسال ابنهِ. فقد اصبح حق الله وشخص ابنهِ والله نفسهُ موضوعًا لبغض القلب الإنساني غير أن الحق الذي ظهر بيسوع المسيح، والنعمة المُعلنة بقوة الله الفائقة وحكمتهِ كملا بواسطة هذا البغض والعدوان. ذلك عدوان دلَّ على ان الإنسان المتدين الأكليريكي وحق الله ونعمتهِ.
66 وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. 67 فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 68 فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. 69 فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ:«إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» 70 فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ:«حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». 71 فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» 72 وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى. (عدد 66-72).
ولكن لننظر الآن إلى المُخلص المبارك المسوق كَحَملْ صامت أمام جازيهِ والخاضع لافتراء القوم الأثمة وتعديهم عليهِ بدون أدنى مقاومة. على انهُ لو أرادا كان يستطيع الحصول على أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة ولكنهُ لم يستعمل سلطانهُ بل كان في حالة الحب المقترن بالصبر والطاعة، ولم يؤلمهُ شيء أكثر من إنكار تلميذهِ إياهُ ذلك كان عليهِ أشد من تعديات الجهلة وأعمالهم الوحشية. ولكن وإن آلمهُ ذلك فقد حملهُ ضعف التلميذ المذكور على إلقاء النظر عليهِ ليشجع إيمانهُ ويؤيد ثقتهُ بهِ ويُنشئ فيهِ دموع التوبة بدلاً عن إبداء عواطف قلبهِ العجيبة. فالسُبح لاسمه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 4:06 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع


الأصحاح الخامس عشر 

1 وَلِلْوَقْتِ فِي الصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْكَتَبَةُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ.2 فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ:«أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ تَقُولُ». 3 وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا. 4 فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ أَيْضًا قِائِلاً:«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ اُنْظُرْ كَمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ!» 5 فَلَمْ يُجِبْ يَسُوعُ أَيْضًا بِشَيْءٍ حَتَّى تَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ. 6 وَكَانَ يُطْلِقُ لَهُمْ فِي كُلِّ عِيدٍ أَسِيرًا وَاحِدًا، مَنْ طَلَبُوهُ. 7 وَكَانَ الْمُسَمَّى بَارَابَاسَ مُوثَقًا مَعَ رُفَقَائِهِ فِي الْفِتْنَةِ، الَّذِينَ فِي الْفِتْنَةِ فَعَلُوا قَتْلاً. 8 فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِمًا يَفْعَلُ لَهُمْ. 9 فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ:«أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». 10 لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. 11 فَهَيَّجَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْجَمْعَ لِكَيْ يُطْلِقَ لَهُمْ بِالْحَرِيِّ بَارَابَاسَ. 12 فَأجَابَ بِيلاَطُسُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ:«فَمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أَفْعَلَ بِالَّذِي تَدْعُونَهُ مَلِكَ الْيَهُودِ؟» 13 فَصَرَخُوا أَيْضًا:«اصْلِبْهُ!» 14 فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:«وَأَيَّ شَرّ عَمِلَ؟» فَازْدَادُوا جِدًّا صُرَاخًا:«اصْلِبْهُ!» 15 فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ، أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ، بَعْدَمَا جَلَدَهُ، لِيُصْلَبَ. (عدد 1-15).
ان إنجيل مرقس يتكلم اختصارًا عن محاكمة ينبوع والقضاء عليهِ فهذا أمر مهم. فحين ينتهي هذا الإنجيلي من إيراد قصة رفضهِ من اليهود يتكلم عما جرى لدى بيلاطس وذلك ليأتي بما يلزم إيرادهُ في هذا المقام وليوضح ان يسوع قد حكم عليهِ هنا أيضًا لأجل الشهادة التي أداها بنفسهِ عن الحق على أن ذلك جرى بالحقيقية بواسطة خبث رؤساء اليهود لأن بيلاطس بذل الجهد بإطلاقهِ ولكن لم تكن لهُ قوة أدبية وكان يحتقر اليهود وكل ما يختص بهم فلذلك أسلم يسوع لمشيئتهم بدون ضمير. فلما سأل بيلاطس أ أنتَ مَلك اليهود؟ أجاب يسوع: أنت تقول. أما شكاوي رؤساء الكهنة فلم يُجيب عليها بشيء؛ لأنهُ كان قد أدى الشهادة.
ان الرب يسوع كان مزمعًا ان يُضحي نفسهُ في الحالة فهذه الشكاوي كلها لم تكن شيئًا وبيلاطس عَلمَ ذلك. غير أن اليهود كان لابد لهم ان يُظهروا الروح الذي حركهم على ذلك العمل. فحاول بيلاطس أن يتخلص من يسوع ومن المشكل بعادة كانت قد دخلت في ذلك الزمان وهي إطلاق أسير في الفصح لإرضاء اليهود فعرض ذلك على الشعب ليدرأ عنهُ خبث الكهنة وحقدهم غير أن ذلك كان عبثًا لأن لابد للسيد ان يتألم ويموت. فحرض الكهنة الشعب ان يطلبوا إطلاق باراباس وصلب يسوع. فحاول بيلاطس أيضًا إطلاقهُ ولكن عاد فأسلمهُ إرضاء للشعب.
16 فَمَضَى بِهِ الْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ الدَّارِ، الَّتِي هِيَ دَارُ الْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ الْكَتِيبَةِ. 17 وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُوَانًا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ، 18 وَابْتَدَأُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!» 19 وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. 20 وَبَعْدَمَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ. 21 فَسَخَّرُوا رَجُلاً مُجْتَازًا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ، لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.22 وَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَوْضِعِ «جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ». 23 وَأَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ. 24 وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟ 25 وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. 26 وَكَانَ عُنْوَانُ عِلَّتِهِ مَكْتُوبًا: «مَلِكُ الْيَهُودِ». 27 وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. 28 فَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ:«وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ». 29 وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ:«آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ! 30 خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» 31 وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ، قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! 32 لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ!». وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ. (عدد 16-32).
ففي كل هذه الأمور كان اليهود مذنبين على انهُ كان من واجبات ذلك الحاكم الروماني أن يكون ثابتًا وأن يتصرف بالعدل وأن لا يغادر يسوع معرضًا لعدوان الكهنة فقد كان عديم المبالاة وبدون ضمير واحتقر يهوديًا بائسًا لا أصدقاء لهُ وحسب إرضاء القوم المشاغبين من الأمور المهمة. ففي إنجيل مرقس نرى ان كل البغض والعدوان منسوبًا للكهنة. فهم أبدًا وفي كل مكان أعداء الحق وأعداء ذلك الذي هو نفسهُ الحق متجسدًا. فلم يكن لمقاومة بيلاطس تأثيرًا؛ لأن مشيئة الله كانت ان يتألم يسوع لانه وافى لهذه الغاية ولهذا القصد بذل نفسهُ فدية عن كثيرين. أما الكلام الوارد هنا فيُنبئ عن وحشية قلب الإنسان الذي يسرُّ بأن يقسو على المسلَّمين لإرادتهِ وليس لهم اقتدار على المحاماة عن أنفسهم وفضلاً عن ذلك كان لابد للرب ان يُحتقر ويرفض من اليهود والأمم. ذلك دليل على ان الإنسان لا يقبل الله ولا يُسر بجودتهِ وصلاحهِ.
ثم كان لابد للأمة اليهودية من أن تُذل وتُهان لأن الجنود هزأت بالأمة كلها بهزئِها بملكها. فألبسوا يسوع كمَلك ثوبًا أرجوانيًا وضربوهُ وهزءوا بهِ تحت رداء الكرامة الكاذبة، ثم قادوهُ للصليب وكتبوا على الصليب مَلك اليهود وقد أُحصي السيد بين الأثمة. فالأمر الواضح خاصة في هذه القصة إنما هو إهانة ملك إسرائيل. فقد قال رؤساء الكهنة: لينزل المسيح ملك إسرائيل عن الصليب فنؤمن بهِ واستهزاءَ بهِ المصلوبان معهُ. على أن أحدهما تاب بعدئذٍ واعترف بيسوع ربًا ومخلصًا.
33 وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ، كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. 34 وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:«إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 35 فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا:«هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». 36 فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً:«اتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!». (عدد 33-36).
أننا نرى حتى العدد الثالث والثلاثين إهانة الرب وغلبة الشر بحسب الظاهر. فقد أبدى البشر عمومًا وإسرائيل خصوصًا كأمة سرورهم حين ظنوا أنهم قد تخلصوا من حضور المسيح في الأرض وفازوا بقتلهِ لأنهُ كان الشاهد الأمين لله ما عدا كونهِ ملك إسرائيل الحقيقي أيضًا، ولكنهم بمحاولتهم تذليل يسوع لم يذللوا إلا أنفسهم غير أن المُخلص واظب على إتمام العمل الذي أعطاهُ إياهُ أبوه ليعمل في وسط تعدي الشعب الإسرائيلي، وعماهُ، وحماقتهِ، وشرهِ. فقد املأوا وا أسفاه مكيال إثمهم! أما محبة يسوع فكانت أقوى من عدوان الإنسان وجهلهِ. فالمجد لاسمهِ المبارك. غير أننا من العدد الثالث والثلاثين فصاعدًا نرى عملاً أسمى من آلام المُخلِّص الخارجية وإن كانت تلك الآلام حقيقية ومُبرحة. فقد تُرك وحدهُ ولم يكن أحد يرثي لهُ وليس حولهُ إلاَّ الجفاء والوحدة والقسوة ولكن يوجد فرق عظيم بين قسوة الإنسان وقصاص الخطية المُنصبُّ على يسوع من يد الله.
فغشَّت في تلك الساعة الظلمة الأرض فإن المسيح كان وحدهُ مع الله محجوبًا عن الأشياء المنظورة لينفرد كل الانفراد مع الله. فاحتمل قصاص خطايانا وتجرَّع عنا كأس اللعنة وقد أصبح الذي لم يعرف خطيةً خطيةً لأجلنا. فنرى في المزمور الثاني والعشرين أن السيد شعر كل الشعور بعدوان الإنسان وشره كما أنهُ كان قد سبق فرأى ما هو عتيد أن يحدث وأصبح عرقهُ كنقطات دم جاريًا على الأرض فالتفت إلى الله أبيهِ وهتف قائلاً لا تبتعد عني غير أن الله تركهُ لألم نفسهِ وحجب وجههُ عنهُ. على أنهُ لم يكن في زمانٍ أكثر قيمةً لدى الله وأعزَّ عليه مما كان الآن وهو الطاعة الكاملة. غير أن هذه الطاعة قد تمت حين صار خطيةً لأجلنا. ولم يُمجد أباهُ ببرهِ ومحبتهِ كما مجدهُ الآن. فقد أمسى ذبيحة خطية وشعر في أعماق نفسهِ بغضب الله على الخطية ولذلك احتمل قصاصها فالتزم الله أن يحجب وجههُ عن ذلك الذي صار خطية لأجلنا ذلك كان ضروريًّا لمجد الله وجلالهِ كما أنهُ كان لازمًا لنا أيضًا. ولكن مَنْ يستطيع أن يقيس أعماق آلام المُخلِّص. فإن ذلك الذي كان موضوعًا لمسرَّة الآب قد تُرِك الآن. وذلك الذي كان القداسة نفسها صار خطيةً لدى الله. ولكن قد انقضى العمل كلهُ فقد تَممَ الفداء الذي شاءت إرادة الله إتمامهُ. فيا لبهجة هذا الفكر وقداستهُ وهو أنهُ بزيادة آلامهِ ازدادت عزتهُ وقيمتهُ لدينا! فكل ما تأملنا بمحبتهِ الكاملة وبكمال شخصهِ كل ما ازدادت محبتنا لهُ. فقد زالت بموتهِ كل الآلام وأصبح بقيامتهِ إنسانًا جديدًا لنا وغُفِرت خطايانا كلها وأمسينا مُتحدين معهُ في حضرة الله وحينما يأتي نكون مثلهُ في المجد. ولكن وإن مات لم يكن ذلك الفراغ قوتهِ الحيوية. فهتف بصوتٍ عالٍ وأسلم الروح. فقد انقضى الأمر كلهُ وأسلم الروح ليد أبيهِ وقد مات لأجلنا حقيقةً. وقدَّم نفسهُ لله بدون عيب ووضع الله عليهِ إثم كثيرين. فكان لا بدَّ لهُ أن يموت ولكن لم ينزع أحد حياتهُ بل بذلها هو نفسهُ طوعًا حين أكمل العمل.
37 فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. 38 وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. 39 وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ الْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هكَذَا وَأَسْلَمَ الرُّوحَ، قَالَ:«حَقًّا كَانَ هذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!» 40 وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ الصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، 41 اللَّوَاتِي أَيْضًا تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.42 وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ الاسْتِعْدَادُ، أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ، 43 جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا مُنْتَظِرًا مَلَكُوتَ اللهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. 44 فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعًا. فَدَعَا قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ:«هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» 45 وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ، وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ. 46 فَاشْتَرَى كَتَّانًا، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِالْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتًا فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَرًا عَلَى بَابِ الْقَبْرِ. 47 وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ. (عدد 37-47).
فانشق حينئذٍ حجاب الهيكل إلى اثنين من الأعلى إلى الأسفل فرأينا طريق الأقداس مفتوحة للمؤمنين الذين كانوا تحت الناموس. فإن الحجاب بين القدس وقدس الأقداس إنما يدل على ان الإنسان لا يستطيع الد*** إلى حضرة الله انظر (عبرانيين 19:10-20) فيا لعظمة هذه الحقوق وبهجتها! فالآن نستطيع الد*** إلى حضرة الله بلا خوف مبيضين كالثلج لنسرَّ بتلك المحبة التي رفعتنا إلى ذلك المقام. فقد صنع المسيح السلام بدم صليبهِ وأتى بنا إلى الله نفسهِ والبار مات بدلنا نحن الآثمة.
ثم بذبيحة واحدة قد أكمل إلى الأبد المقدَّسين. فلا يستطيع أن يُقدم نفسهُ ثانيةً. فإذا كانت خطايانا لم تُمحَ بهذه الذبيحة لن تُمحا إلى الأبد لآن يسوع لا يستطيع أن يموت أيضًا فالمسألة لا تتعلق على الرش لأن بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، والرسول يوضح هذا الحق المقدس بقولهِ فإذ ذاك كان يجب ان يتألم مرارًا كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهرَ مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسهِ (عبرانيين 26:9) فحين يؤمن الإنسان يحرز هذه البركة ويكمل إلى الأبد لدى الله بالمسيح. فالخطية لا تستطيع ان تنسب إليهِ بعد لأن المسيح حملها وكفرَ عنها وهو في حضرة الله دائمًا بدلهُ شاهدًا بأن خطاياهُ قد نزعت وأن الذي يأتي إلى الله بالمخلص يُقبل كل القبول بواسطتهِ.
فربما قال البعض: إذ نستطيع ان نعيش في الخطية فهذا الاعتراض نفسهُ أُعترض بهِ على الإنجيل الذي يُبشَّر بهِ بولس وجوابهُ وارد في رسالة رومية الإصحاح السادس. فإذا كان لنا إيمان بالمسيح حقيقة كنا مولودين ثانية ولنا طبيعة جديدة وقد خلعنا الإنسان العتيق لبسنا الجديد، وقدمتنا عن الخطية متنا مع المسيح بالإيمان وصلبنا معهُ حتى لا تُحي بعد بل المسيح يحيا فينا وقد أصبحنا خليقة جديدة والعمل الإلهي يعمل فينا لأجلنا. فإذا كان يسوع برنا هو أيضًا حياتنا، وقد أُعطي لنا الروح القدس ونحن مطالبون ومدعوون للسلوك في السبيل الذي سلكهُ سيدنا. غير ان هذا لا يتداخل بعمل المسيح لأجلنا، ذلك عمل كامل قد قبلهُ الله ولذلك يجلس عن يمين الله كإنسان في ذلك المجد الذي كان لهُ عند أبيهِ قبل خلق العالم. ولا يُخفى انهُ قبل إتيان المسيح لم يظهر الله نفسهُ ولم يستطيع الإنسان الد*** إلى حضرتهِ بحسب برّهِ في المسيح.
فبين كان الكل واقفين بعيدًا صامتين تكلم ضمير قائد المائة فالكل كان أعدائهُ إلا التلاميذ الذين هربوا. فإن صوت يسوع العالي الخالي من كل علامة الضعف وتسليم نفسهِ للآب على الفور أثرَّا بنفس ذلك القائد كل التأثير فاعترف بيسوع المائت انهُ ابن الله. فالآن قد تمَّ العمل أجرى الله مشيئتهُ بأن يُحصى في دفنهِ بين الأغنياء كما أُحصي في موتهِ بين الأثمة ويعامل في مواراته التراب بالكرامة والوقار. أما النساء اللواتي تبعتهُ من بعيد حين صلبهِ فاشتركنَ بذلك التكريم ومنهنَّ مريم المجدلية ومريم الأخرى أم يوسي ونظرنا المكان حيث وضع جسدُ في القبر؛ لأن يوسف من الرامة كان قد مضى إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع. فقد كان شجاعًا في موت سيدهِ أكثر مما كان في حياتهِ. ذلك كثيرًا ما يحدث وهو أن عظمة الشر تحمل على إظهار الإيمان والمجاهرة بهِ.
ولكن أمعنوا النظر تروا انهُ كان للنساء مقام يسو على ما ذكر فأنهنَّ كنَّ تبعن يسوع من الجليل وخدمنهُ بأموالهنَّ ثم نراهنَّ دانيات من يسوع حين تركهُ التلاميذ. فهن لم يرسلن للكرازة غير أن شدة تعلقهنَّ بيسوع وأمانتهنَّ ومحبتهنَّ الدائمة لهُ حين الأخطار والأرزاء تتألق كالدراري في تاريخ حياة مخلصنا. ثم أننا نجد دليلاً أخر على ان السيد أسلم حياتهُ طوعًا وأنها لم تنزع منهُ بأن بيلاطس تعجب انهُ مات كذا سريعًا فدعى قائد المائة ليؤكد لهُ هذه الحادثة. فحين علمَ بذلك أعطى الجسد ليوسف فوضعهُ في قبرهِ الجديد إلى أن يعبر السبت.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالجمعة مارس 14, 2014 4:09 pm

أنجيل مرقس Aa4 يتبع

الأصحاح السادس عشر 

1 وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. 2 وَبَاكِرًا جِدًّا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. 3 وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ:«مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟» 4 فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا جِدًّا. 5 وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابًّا جَالِسًا عَنِ الْيَمِينِ لاَبِسًا حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ. 6 فَقَالَ لَهُنَّ:«لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ ههُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. 7 لكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ». 8 فَخَرَجْنَ سَرِيعًا وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئًا لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. (عدد 1-8).
أن تاريخ القيامة في إنجيل مرقس مختصر وبسيط جدًا. ولا ريب في أن نساء كثيرات من اللواتي تبعنَ يسوع زرنَ القبر، الواحدة بعد الأخرى. ولا يُخفى أن مريم المجدلية وصلت إليهِ قبل غيرها، وأن مريم الأخرى وسالومة كانتا معًا ثم أتت الأخريات. فكل إنجيل كتب لنا ما هو لازم لإيماننا حسب التعليم الخاص الذي شاء الله أن يعرضهُ علينا في ذلك الإنجيل. فأننا نرى في إنجيل يوحنا مثلاً: قصة مريم المجدلية وذلك الخبر التمثيل المُلائم لذلك الإنجيل. على أن العدد التاسع من هذا الإصحاح يتكلم عن ذلك أيضًا. فقد أتت مريم المجدلية حين كان لم يزل ظلامًا بعدُ أما هنا في إنجيل مرقس فقد قيل: أنها أتت عند شروق الشمس. والنساء الأخريات ابتعنَ اطيابًا لتحنيط جسد يسوع فربما كنَّ ابتعنَ بعضها قبل السبت ليسترحنَ فيهِ حسب الوصية ولا ريب في أنهنَّ انتظرنَ بعد انقضاء السبت حتى الصباح ليطيبنَ يسوع.
ولكن لما أتت مريم المجدلية القبر كان الملاك النازل من السماء قد دحرج الحجر الكبير، ولم يكن السيد بعدَ هناك، فأنهُ كان قد قام بالقوة الإلهية بغاية السكون، وكانت كل ثياب القبر بترتيب وانتظام. وقد قصَّ مَتَّى في الإصحاح الثامن والعشرين بعض الحوادث التي أجراها الله لكي يجتذب التفات البشر إلى حقيقة قيامة يسوع غير أن يسوع لم يكن في القبر حين وصول النساء إليهِ. فالحجر الكبير لم يكن مانعًا لقيامة يسوع وخروجهِ؛ فأن القوة الإلهية التي أقامتهُ من الأموات والجسد الروحي الذي حصل عليهِ حينئذٍ جعلا غيابهُ عن القبر واحتجابهُ سهلاً.
9 وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِرًا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10 فَذَهَبَتْ هذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11 فَلَمَّا سَمِعَ أُولئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا. 12 وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ بِهَيْئَةٍ أُخْرَى لاثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَهُمَا يَمْشِيَانِ مُنْطَلِقَيْنِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. 13 وَذَهَبَ هذَانِ وَأَخْبَرَا الْبَاقِينَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوا وَلاَ هذَيْنِ. (عدد 9-13).
أن مرقس وحدهُ يذكر في العدد التاسع زيارة مريم المجدليَّة الأولى القبر، وفي العدد الثاني يذكر عن مريم الأخرى وسالومة. على أن مريم المجدليَّة كانت قد ذهبت من القبر؛ لتُعلن لبطرس ويوحنا أن جسد الرب ليس بعد في القبر. فدخل النساء القبر ووجدن الحجر مُدحرجًا ورأينَ ملاكًا جالسًا إلى يمين المكان حيث كان يسوع موضوعًا. فخاطبهنَّ تشجيعًا لهؤلاء النساء المرتعدات الأمينات، وقال: لا تندهشنَ أنتنَّ تطلبنَ يسوع الناصري المصلوب قد قام ليس هو ههنا ثم أراهنَّ المكان الذي كان موضوعًا فيهِ. ذلك من الأمور المجيدة الجديرة بالاعتبار الدالة على جودة الله وإحسانهِ. فأنهُ كان لم يزل فيهنَّ شيء من عدم الإيمان، وكان يجب أن يفهمنَ أن يسوع قد قام لأن الملاك أخبرهنَّ بذلك. غير أن هذا كان أمرًا يفوق أدراك إيمانهنَّ فقد آمنَّ بشخص المخلص، وأنهُ ابن الله غير أن القيامة كانت حقًّا مجيدًا يسمو على إيمانهنَّ. على أن قلوبهنَّ كانت مُخلصة. ولكن طلبن الحي بين الأموات فوافتهنَّ نعمة الله ورحمتهُ بالبشرى الصالحة، وظمنت قلوبهنَّ.
فهؤلاء النساء لم يجدنَ يسوع مائتًا بل أدَّبنَ شهادة صالحة عن أن المخلص المحبوب كان حيًّا. فقد صرنَ رسولات للتلاميذ وبشَّرنهم بكلام المخلص بفم الملاك. لا جرم أن تكريس القلب لله يأتي للنفس بالنور والمعرفة وذلك إذا طلبنا الحق ويسوع نفسهُ. فقد ظهر من مريم المجدليَّة أنها كرست قلبها للمسيح أكثر مما فعل غيرها؛ ولذلك نراها عند القبر قبل شروق الشمس، وقد كانت أول من رآهُ بعد قيامتهِ. وفضلاً عن ذلك قد فُوّضتْ إبلاغ رسالة أسمى مما ذكر هنا، وهي أن تذهب إلى التلاميذ أنفسهم، وتعلن لهم الحصول على مقام أسمى، وحقوق وامتيازات أثمن قيمة. وفضلاً، فقد قال لها يسوع: أذهبي إلى أخوتي وقولي لهم: أني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم (يوحنا 17:20). فقد دُعي التلاميذ هنا أخوة المسيح- المرَّة الأولى-أي أخوة المسيح الناهض من الأموات.
فهؤلاء النساء وأن كان عاملهنَّ يسوع بالكرامة لم تكن لهنَّ بعدُ حقوق عظيمة كما كانت لمريم المجدليَّة بل تسلمنَ رسالة أخرى. فأن يسوع الناهض من الأموات لهُ صفتان متميزتان وهما نسبتهُ لبقية إسرائيل ومقامهُ الجديد كإنسان مُمجد لدى الآب. ففي الصفة الأولى ظهر لتلاميذهِ في الجليل حيث صرف أكثر زمان ظهورهِ معهم وفي النسبة الثانية صعد إلى السماء من بيت عنيا. أما خدمة التلاميذ فتختلف عن هذه أيضًا، ومَتَّى يتكلم عن الصفة الأولى؛ ولذلك لا نرى هنالك تاريخ الصعود، وأما لوقا فيتكلم عن الصفة الثانية حيث صعد السيد وقُبِلَ في السماء.
14 أَخِيرًا ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَهُمْ مُتَّكِئُونَ، وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ. 15 وَقَالَ لَهُمُ:«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. 16 مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ. 17 وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. 18 يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئًا مُمِيتًا لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ».19 ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ. 20 وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. آمِينَ. (عدد 14-20).
ثم ان هذا الإنجيل يذكر ملخص الجزء الأخير من تاريخ حياة يسوع الناهض المدون في إنجيلي يوحنا ومرقس ويتكلم أيضًا عن مريم المجدلية، والتلميذين الآخرين المنطلقين إلى عمواس، وخدمة الرسل العامة الذين كانوا مزمعين ان يذهبوا ويكرزوا بالإنجيل للعالم كلهِ، وقِيلَ أيضًا أن مَنْ آمن وأعتمد خلُص وأن الآيات تتبع ليس الرسل فقط بل الذين يؤمنون بواسطتهم. وأنهم سيعلنون بالمعجزات التي يجترحونها قوة الرب الذي قد آمنوا بهِ.
ثم صعد الرب أخيرًا إلى السماء وجلس عن يمين الله وانطلقوا الرسل ليكرزوا في العالم وكان الرب يعمل معهم ويُثبت الكلام بالآيات التابعة. إذًا الخلاص يتعلق على الإيمان والاعتراف بيسوع، وقد شهد الرب لحق الإنجيل بالآيات العظيمة ذلك يسرَّ سبيل الإيمان وسهلهُ وجعل كل من لم يؤمن بلا عذر.
أخيرًا أقول أني ما تكلمت كثيرًا في شرحي على الفصل الأخير من هذا الإنجيل عن آلام المسيح والحوادث المتعلقة بقيامتهِ لأنهُ ليس المقصد بهذا الإنجيل أن يوضح لنا هذه الحقائق. ولكن الروح الواحد الذي أعطانا إياهُ قد أنعم علينا بالثلاثة الأناجيل الأخرى أيضًا لكي تكون الفائدة تامة وكاملة. وقد رأينا مرارًا كثيرة في هذا الإنجيل أنهُ يخبرنا بما يتعلق بحياة سيدنا يسوع المسيح كالنبي، والخادم الكامل الأمين الذي أظهر الطاعة التامة لمشيئة الذي أقامهُ في هذا المقام في وسط البشر الذين داوموا على المعصية والتعدي منذ وقت السقوط. فمرقس الإنجيل إنما
اُلهم من الله أن يتتبع حوادث حياة الرب باعتبار خدمتهِ الأمينة، فظلَّ طائعًا حتى الموت وكأنهُ إنما أسلم روحهُ طوعًا حين لم يبقَ لهُ شيءٌ بعد ليفعلهُ. سبيل الطاعة جلب عليه عار العالم وقادهُ إلى الصليب وكان في كل حالٍ يكمل مشيئة الله أبيهِ. فليس لهُ داعٍ للبقاء بعد في عالم مشحون من المعاصي حيث لا يوجد شيءٌ بعد من مشيئة الله غير مُكمل. وياللعجب من حياة كهذه في عالم كهذا. قد رأيناهُ في الفصل الأخير من إنجيل مَتَّى موصوفًا كالذبيحة القدوسة قائمًا مقامنا لدى العدل الإلهي وأما في هذا الإنجيل فنراهُ مُكملاً طاعتهُ بالموت. وكان لابدَّ للبشر جميعًا أن يظهروا ما فيهم على كل حالٍ وأما يسوع فأظهر ما فيهِ ونعمَّ الإظهار.
وأما من جهة قيامتهِ من بين الأموات فنرى في هذا الإنجيل أنها تأكدت كل التأكيد لتلاميذهِ لأجل تثبيت إيمانهم وذلك على طريقين أعني المشاهدة والشهادة. فأنهم شاهدوهُ البعض بعد الآخر ثم ذهبوا وأخبروا رفقاءهم أن الرب قد قام وقد ظهر لهم وكان يجب على الآخرين أن يصدقوا شهادة كهذه غير أن إيمان الجميع كان ضعيفًا. لا يوجد هنا ذكر زلزلة الأرض التي حدثت وقت نزول الملاك من السماء ودحرجة الحجر من باب القبر لأن الحوادث الخارقة العادة في الطبيعة ذاتها لم تكن مما يلزم لتوطيد إيمان التلاميذ الذي كان من الأمور الأولية لهم، أولاً- لأجل تطمين أفكارهم وراحة قلوبهم، وثانيًا- لأجل خدمتهم حيث تكلفوا بخدمة الكرازة للعالم. وأما خدمة الكرازة المذكورة هنا فهي المناداة ببشارة الخلاص بمجرد الإيمان بالمسيح والاعتراف باسمهِ في نوال المعمودية. والآيات المذكورة هنا هي مما يتعلق بالإيمان وتخصُّ المؤمنين جميعًا ولاريب أنها حدثت بعدئذٍ كما نرى في التاريخ المدون في الأعمال. قيل هنا. وهذه الآيات تتبع المؤمنين. يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون حيات وإن شربوا شيئًا مُميتًا لا يضرُّهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأُون. معلوم أن الآيات جرت عن يد مؤمنين كثيرين في الأول، ولكنها انقطعت شيئًا فشيئًا من أجل الضعف الذي اعترى الإيمان عند مضي الزمان، وإذ ذاك فضعفت الشهادة المسيحية للعالم كما لايُخفى عند القارئ. فأن صنع المعجزات لم يكن للمؤمنين بل لغير المؤمنين. حتى التكلم بألسنة جديدة كان على سبيل آية للذين لم يكونوا قد حصلوا على الإيمان بعد وليس لأجل الكرازة والتعليم (انظر كورنثوس الأولى 22:14). على أنهُ مذكور في التواريخ المسيحية ان بعض الآيات لم يزل موجودًا في العصر الثالث فأن المسيحيين كانوا يشفون المرضى ويخرجون الشياطين باسم المسيح. وإن سأل القارئ لماذا لا نقدر ان نجترح الآيات في أيامنا. أُجيب وأقول: انهُ من الأمور الواضحة كل الوضوح ان المواهب المتعلقة بإجراء الآيات ليست موجودة الآن لأنها قد انقطعت حقيقيةً ولا يوجد وعد واحد برجوعها وانهُ ليس من العلامات الحسنة أننا نهتم بها ونطلب الحصول عليها حتى لما كانت موجودة كانت المواهب المتعلقة بالبنيان الروحي محسوبة أفضل منها انظر (كورنثوس الأولى 1:14) ويجب أن نشكر الله لمداومة ما هي الأفضل عندنا. وعدا ذلك أقول: أولاً- انهُ ما بقى موضوع مناسب لإجراء الآيات فيهِ من وقت انفصال المسيحيين بعضهم عن البعض وتسميتهم بطوائف متعددة فإنهُ لو ظهر شيء من القوة الآن يُنسب حالاً فضلها إلى الطائفة ما أو على الأقل للرجل الظاهر القوة عن يدهِ، وذلك لا يكون لمجد اسم المسيح. ثانيًا- اجتراح الآيات كان مثل زينة أو حُلي للكنيسة في الأول قد ألبسها الرب إياها لدى العالم ولكن لما خانتهُ بمخالطتها العالم نزعها الرب عنها وأهانها نوعًا من الكرامة. ثالثًا- ربما قائل يقول: ولكننا قد سمعنا بحدوث شفاء بعض مرضى وإخراج شياطين في أيامنا فإذًا كيف نجزم بانقطاع هذه القوة تمامًا؟ فأقول: أن الله قادر ان يفعل كما يشاء في أي وقتٍ كان. هذا القبيل ليس من باب القوة والمواهب مطلقًا فإنما يُنسب للصلاة فقط. ويوجد فرق عظيم جدًا جدًا بين القوة لاجتراح عجائب وبين نوالنا أجوبة حسنة لصلواتنا، يجوز لنا بل يجب علينا أن نواظب على الصلوات والتضرعات لله لأجل كل الأمور التي تهمنا كأولادهِ وربما صلَّينا لأجل مريض فشُفي أو لأجل مُصاب بروح نجس فخرج منهُ، ولكنهُ لا ينتج من ذلك أننا نقدر أن نشفي كل مريض أتى إلينا أو نُخرج جميع الأرواح التي نُلاقيها. إن كان أحد يدعي بقوة لفعل ذلك يوجد كذابًا سريعًا. إن كنا نُصلي في الضيق فهذا من الضعف لا من القوة ولنا مواعيد كثيرة من قِبل الله بإجابة الصلاة. فإذًا إذا حصلنا على جواب للصلوات يظهر انهُ عجيب كإقامة واحدٍ من مرض مرضًا شديدًا فيجب ان نحترز جدًا من الانتفاخ كأن ذلك يُبرهن وجود قوة فينا دون غيرنا أو كأننا نستطيع شفاء أي مريض كان لأنهُ إن وقعنا في وهم كهذا لا يلبث الرب ان يُخجل وجوهنا على قدر افتخارنا.
ثم ان الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله، وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويُثبت الكلام بالآيات التابعة. فختم مرقس إنجيلهُ بهذه الإشارة المختصرة إلى خدمة التلاميذ لأنهم بمعونة النعمة أظهروا نوعًا من الأمانة في خدمتهم كما كان قد ظهر في خدمة سيدهم. معلوم أنهم لبسوا قوة بعد حلول الروح القدس عليهم ولكن لا يوجد ذكر لذلك في هذا الإنجيل. فارتفع السيد إلى السماء وجلس عن يمين الله ولكن الخدمة المتعلقة بالمحبة الإلهية لم تنقطع عن العمل في هذا العالم الشقي المحتاج إلى ذلك كل الاحتياج. ويا للنعمة التي شاءت وجعلتنا آنية لهذه الخدمة! وكم يجب علينا ان نسلك مع الله بضمير طاهر لكي نستطيع أن نكرز للآخرين بالمحبة التي أفعمت نفوسنا؛ لأن كل من يأخذ ينادي بالإنجيل بدون ان يشعر بقوتهِ في نفسهِ فليس إلا نحاسًا يطن أو صنجًا يرنُّ. وكأنه يجول يصف دواء للآخرين وهو لم يشربهُ مع انهُ مُصاب بمرضهم بعينهِ. نعم لسنا نقدر على اجتراح العجائب وذلك ليس بمطلوب منا ولكننا نستطيع بالنعمة أن نُنادي بمحبة الله التي أظهرها بعطية ابنهِ العزيز والإيمان يأتي بالخبر والخبر بكلمة الله.
المحتمل انهُ سيظهر في هذه الأيام الأخيرة بعض علامات قوة ولكنها تُنسب إلى إبليس لا إلى المسيح فعينا أن نحترز من الضلال، والخداع ونمتحن كل شيء بكلمة الله واسم المسيح. إذا كنا ننصب وراء علامات قوة نُصبح في خطر عظيم من أن ننغش من العدو ونشتبك بشباكهِ. ولكن إذا كنا نسعى في طريق الاتضاع والطاعة نشبه سيدنا العزيز ونَسَلم من حيل إبليس.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زائر
زائر




أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت مارس 15, 2014 8:21 am

أنجيل مرقس %D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%83%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87%20%D9%81%D9%8A%D9%83


أنجيل مرقس 9c59726608
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت مارس 15, 2014 10:58 am

أنجيل مرقس 356192_1389211772
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
سعاد
الادارة العامة
الادارة العامة
سعاد


عدد المساهمات : 17886
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 16, 2014 7:22 pm

أنجيل مرقس Qxuc94
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالخميس أبريل 17, 2014 11:40 am

أنجيل مرقس Untitled-15555
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زائر
زائر




أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت أبريل 19, 2014 12:54 am

المسيح  قام  ++++++++++حقا قام

هاليلوياااااااااا


أنجيل مرقس 2lberv7
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت أبريل 19, 2014 6:24 am

أنجيل مرقس 89733642bk1
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ليزا
المديرة العام
المديرة العام
ليزا


عدد المساهمات : 12357
تاريخ التسجيل : 11/01/2014

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت أبريل 19, 2014 10:05 pm

أنجيل مرقس Images?q=tbn:ANd9GcTCHh4Hy-AE_9ICq_ZJNjbayft5HdsCvoWYyYtu3uLDHc_cn2nKtw

 أنجيل مرقس 3407567427 أنجيل مرقس 3407567427 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بنت العذراء
خادم الرب
خادم الرب
بنت العذراء


عدد المساهمات : 3714
تاريخ التسجيل : 11/01/2014
الموقع : فلسطين

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالسبت أبريل 19, 2014 10:24 pm

أنجيل مرقس 10289456_456352704497489_50828782_o
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رغدة
نائب المدير العام
نائب المدير العام
رغدة


عدد المساهمات : 18519
تاريخ التسجيل : 10/01/2014
العمر : 50
الموقع : لبنان

أنجيل مرقس Empty
مُساهمةموضوع: رد: أنجيل مرقس   أنجيل مرقس I_icon_minitimeالإثنين أبريل 21, 2014 1:01 pm

أنجيل مرقس 10174925_528323157284309_7687385159885198443_n
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أنجيل مرقس
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» آيــــــة .... وتــــــــأمـــــــل ( من أنجيل قداس اليوم )
» نشأة القديس مار مرقس
» القديس مار مرقس الرسول
» صور للقديس مرقس الرسول
» صور متحركة للقديس مرقس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات افا كاراس ومارجرجس بالغابات  :: القسم الروحى :: المواضيع المتكاملة-
انتقل الى: